حلقـ(4)ـة
أولى ثانوي ..

بدأت المدراس والحمد لله .... ودخلت أول ثانوي .... مبنى جديد وكبير .... ودراسة جديدة .... ومعلمات غير .... ومواد مختلفة .... كل شيء جديد ومختلف .... عالم جديد أخذني بعيدا عن واقعي ..

وهذا التغيير في كل شيء .... شغل ذهني كثيرًا .... ولهاني عن الأحزان برمتها .... فكنت سعيدة من الخروج من كآبة تلك العطلة السوداء - لا أعادها الله - .... وأيضا بسبب فرحة الدراسة نفسها .... كنت أحب المدرسة وجو المدرسة وأحب العلم ..

وزاد من سعادتي أنّ ذاك الجاثوم لم يزرني أيامها .... لم أرَ وجهه في ذاك الوقت .... خفّ عني ورحل حاملا أمتعته الثقيلة من على صدري الصغير .... ونسيته أنا تماما .... وساعد في نسياني له أني لم أكن أتحدث عنه لأحد .... فنسيته .... لن يُذكر أمامي .... ولم يذكّرني أحد به .... لأنهم لا يعلمون عن الأمر شيئا !! .... ونسيت الحبال وتلك الصرخات المزعجة الخائفة والأحلام المرعبة .... نسيت كل شيء عن هذا .... وكانه لم يكن قد حدث ممن قبل .. وربما تناسيت هذا بلا وعي مني .... وبتخطيط من عقلي الباطن رحمة بي ..

صرتُ أنام ملئ جفني والحمد لله .... لن أقول نومي صار براحة .... ولكن أقلها بلا صراخ ولا حبال ولا ضيق ولا خوف ولا رعب ولا أحلام مخيفة .... تركني وابتعد دون سبب .... مع أني لم أكن أقاومه سوى بالشهادة في حال الاختناق الشديد الذي يجعلني على شفير الموت ..

كنت مقصرة كثيرا .... لا أذكار ولا قراءة قرآن .... لم أكن أعرف شيء اسمه أذكار الصباح .... ولا أذكار المساء .... ولا أعرف أذكار النوم .... هذه الأذكار هي أقوى سلاح تقتل به الجاثوم للأبد .... لكني لم أعرف هذا إلا متأخرا ..
ولكن يبقى السؤال ..
لماذا ابتعد ؟! ..
لا أدري لما قرر ذاك الجاثوم الرحيــل تلك الفترة ؟!! .... لا أدري للآن لم فعل هذا ؟! .... ربما شُغل عني بشاغل ؟! .... لا أدري هل الجنّ يُشغلون ؟! .... يعني مثلا يكون حط عينه على أحد ثاني وقال في نفسه ذي شغلتها شغلة خلها بعدين ويكون لحق فريسة أسهل .... لستُ أمزح بل انا جادة في هذا ..

تلك الأيام لم أفكر بسبب انقطاعه عني .... لأني نسيته أصلا .... فقدان ذاكرة متعمد أو غير متعمد لا أدري .... وانشغلت بالعالم الجديد الجميل الذي بدء معي .... دون أن أفكر في سبب قطيعته - وليته كمل جميله وقاطعني للأبد - ..

ولكني الآن أفكّر ؟!!
لماذا قاطعني ياترى هذه الفترة الطويلة بعد ذاك العذاب في الصيف ؟!

هل بسبب حالتي النفسية التي تحسنتْ كثيرا جدا مع المدرسة وجو الدراسة والتعليم ..
وانقلب الحزن فرحا والتعاسة سعادة والضيق سعة ؟! ..

ربما هذا التغيير في حالتي النفسية للأفضل جعلته لا يستطيع يخلص لي كما كان يفعل في العطلة حينما كنت في حالة منهارة ويائسة ؟! .... ربما الإنسان الحزين اليائس المنهار يكون به ثغرات في جسمه ينفذ منها الشيطان بسهولة لهذا نُهينا عن الحزن الشديد وهذا الجاثوم لما زال الحزن عني لم يجد تلك الثغرات ؟! ..

أو ربما بسبب المواد الشرعية التي اضطررت لفتحها كالقرآن والتوحيد والفقه فلم يتحمل البقاء معي ؟! .... كنتُ أيامها لا أقرأ من القرآن إلا أيام المدرسة حسب المنهج وفي رمضان - الله يغفر لي ويتوب عليّ ولعل هذا من تنبيه الله للمسلم واحذروا من الغفلة طويلة الأمد فالشياطين تتسلط على مثل هذا الشخص - ..

أم بسبب أن وقتي قد امتلئ بالإنس يوميا .... أكون مع صويحباتي صباحا .... وفي المساء نلتقي على الهاتف .... عدا أني بدأت أتواجد في منزل الجيران - أنا وأخواتي - بصورة مكثفة .... لأن بناتهم معي في المدرسة ومع اخواتي .... وحصل تقارب كبير بيننا وصداقة قوية .... ولعل هذا التواجد الإنسي المكثف يضايقه .... ربما كان يأنس يكوني وحيدة شبه منعزلة ذات نفسية سيئة دائمة البكاء في تلك العطلة .... ربما استوحش من هذا الوجود الإنسيّ ففرّ ؟! ....

لا أدري فهذه مجرد احتمالات أضعها الآن بسبب غيابه في تلك الفترة ؟! ..

لم يكن بيتنا من النوع الذي يكثر فيه الغناء أو المنكرات عموما .... فتح الغناء يعتبر ممنوعا ولا يجرؤ عليه احد في حال وجود الوالد - رحمه الله - ولكن قد يحصل بصورة ضيقة من خلفه من قِبل أحد إخوتي الذكور أو حتى نحن البنات .... وربما وقتها ما كنت أتحرز من سماع الغناء كالآن .... ولكني لم أكن ممن يكثر من سماع الغناء .... تطبعت بطابع البيت فلم تتعود أذناي على سماع الغناء - الله يحزِ والدي عنّا خيرا - .... وكان واحد من إخواني الذكور يجلب الأفلام من خلف والدي .... بينت هذا لأركز أن الجن تتواجد عند وجود المنكرات كالغناء ومناظر العري في الأفلام والموسيقى التي تصاحب هذا ..
نسيت أن أضيف شيئا ..
كان بيتنا الذي حصلت فيه كل الأحداث بيت قديم .... وإن كان حسن المنظر في الحارة .... ولكنه قديم مبني من سنييييييييين يعني فوق العشرين أو الثلاين سنة إلى خمسين سنة أو أكثر .... قبل أن نسكن فيه ، تركه أهله دون سبب ، وتُرك فترة طويلة إلى أن استأجره أناس كان آخرهم والدي الذي اشتراه وجدّد فيه كثيرا ..

كنا صغار جدا وقت أن سكنّا فيه وغالب إخوتي وُلدوا فيه .... كانت والدتي تكره هذا البيت .... وتطلب من والدي بيعه .... والانتقال لسكن آخر .... لم تكن ترتاح فيه .... كانت ترى فيه أمورًا غريبة .... وتخشى أنه مسكون .... حتى أذكر أحد المرات كنا صغارا .... يمكن كنت لم أدخل المدرسة بعد .... حصل هذا قبل المغرب بشوي .... لا أدري مالذي حصل ليجعل أمي تصرخ وتنادينا واحدا تلو الآخر .... ثم تجرّ عباءتها وتسحبنا أنا وأخواني جميعا للشارع .... كنا نجري في الدرج كأننا مُطاردون من قبل شخص ؟! .... جلسنا في الشارع خارج المنزل تحت أنظار المارة المستغربين .... إلى أن قدم خالي وأخذنا إلى بيتهم .... فهمت من الكلام الي يدور .... أن سبب خروجها هو سماعها أصوات أناس تتحدث وأشياء غريبة .... تمّتْ مناقشات مع والدي في محاولة لبيع البيت .... ولكن كان الأمر شبه مستحيل فبالكاد والدي نزل من بيت أهله واشترى هذا البيت .... ولو باعه لذاك السبب لخسر كثيرا إذ لن يقبل به أحد وهو مسكون إلا بثمن زهيد .... لم تفلح دموع والدتي في جعل والدي يبيع هذا المنزل .... فعادت له بعد فترة مضطرة ....
صار والدي يفتح لها مسجلا فيه قرآن - وسورة البقرة تحديدا - لترتاح نفسيا .... واحيانا كان يقرأ هو بنفسه سورة البقرة وينادي الجن أمامها لتطمئن أنه لا احد في المنزل وان كل مافي ذهنها مجرد تهيؤات .... وقام أيضا وجدّد في البيت كثيرا ووسع المنزل .... وبنى في الأسطحة المتناثرة الكثيرة المهجورة غرفا كثيرة وجدد الطلاء .... ليقضي على أي مكان يسبب الرعب لها .... ولتذهب عنها فكرة وجود جنّ يعيشون بيننا .. كان البيت الذي نسكن فيه كبيرا جدا .... بمقدار ثلاث شقق كبيرة .... وباقيه كان مؤجرا .... هذا البيت باعه والدي من أكثر من عشر سنوات وانتقلنا لبيت آخر والحمد لله .... لم نر أنا أو إخوتي في هذا البيت شيئا ظاهرا مريبا سوى ماكانت تقوله والدتي رحمها الله ..
المهم ..
ذكرت ماسبق من سرد النقاط أحاول معرفة سبب غياب هذا الجاثوم في تلك الفترة .... كانت في حدود الشهرين بالكثير .... وكما ذكرت في الأعلى .... لم أتذكره وقتها .... نسيانًا أو انشغالا .... ذهني انشغل عن الأحزان والهموم بالتفكير في الدراسة والمبنى المدرسي الجديد والزميلات بعد الفرقة .... وانصرفت للاهتمام باللبس وأحدث أنواع الأقلام الملونة والشنط والتفكير في الدرجات والتنافس للحصول على المراكز الأولى في المدرسة كعادة البنات ..

وهكذا نسيت تلك الأيام وتلك الأحلام وتلك الحبال وتلك الصرخات المفزعة وتلك العطلة الصيفية المخيفة المليئة بالأحزان ..

.
.
.

إلى أن عاد الجاثوم مرة أخرى ..
وبصورة أخرى ..

.. يتبع ..