حلقــــ(5)ـة
عودة الجاثوم ..
مضتْ أيامُ المدراسة في أول ثانوي كما ذكرتُ لكم .... جميلةٌ .... ممتعةٌ .... مشوّقةٌ .... آنستني .... وأنستني الآلامَ والأحزانَ والهمومَ ..
كأنّما غسلتني من أعباءِ سنةٍ كاملةٍ مضتْ .... سنة ٍمن أسوءِ السنينَ التي مرّتْ عليّ في حياتي .... وكانتْ خاتمتها تلكَ العطلة السوداء المُفزعة ..

في هذه الأيام اكتسبت العديد من الصديقات من كل جنس ولون .... كنّا مجموعة مميزة .... أهم مايجمع بيننا الجدّ والاجتهاد والدراسة .... كان التنافس بيننا كبيرا للحصول على المراكز الأولى في المدرسة .... وربما خالط هذا الغيرة وبعض الأحقاد الخفيفة .... ومع هذا فكل ما فيه كان ممتعًا وقتها ومشوّقا لأبعد حدّ ..

هكذا مضتْ أيامي جميلة سعيدة بخلاف ماسبق ..
لم يعدْ يكدّرني همٌّ ولا حزنٌ في يقظةٍ ولا نوم .... صرت أنام ملئ جفني .... وامتلأتْ حياتي بالصديقاتِ ..
ورغمَ أنّي على ما أنا عليه .... لا أذكار أحافظُ عليها .... ولا وِردٌ من كتابِ الله ألتزمُ بهِ .... إلا ما أُلزم به في المدرسة ( ليت المدارس يجبرون البنات بحفظ أذكار الصباح والمساء والنوم ويُلزمون البنات بهذا يوميا ، مين يصدق بنت ثانوية وما أعرف أذكار الصباح والمساء والنوم ؟!!! لو يُلزمون به كطابور الصباح !! ، كانت اخواتي الكبار يأتون بهذه الأذكار ، أما أنا فقد كبرت في أيام صعبة ووفاة ومشاكل ، وأُهملت من غيرِ قصدٍ ) ..

في تلك الفترة .... ابتعدّتُ كثيرًا كثيرًا عنِ الله .... المنكراتُ والمعاصي صارتْ صديقة لي من ضمن الصديقات التي حفّت بي .... كنتُ أتابع المسلسلات .... وقليلٌ من الغناء ..
الأفلام التي كان يأتي بها أحد إخوتي .... تعاقد مع مجموعة من أصحابه مع محل فديو .... فكنا نرى الأفلام الجديدة اول بأول في نهاية كل أسبوع ( للأسف الشديد أن أخي فعل هذا وأغرق البيت بتلك الأفلام في تلك الفترة العصيبة ، ربما كان يسد وحشة وحزنا على وفاة الوالدة فأغرق نفسه وأغرقنا بهذا المجون ، من يفعل هذا في أهل بيته يتحمل إثمهم كلهم ، وشتان بين من يغرق أخواته بالشريط الطيب الداعي للفضيلة وللحياء ، وبين من يغرقها بالفلم الماجن والغناء الفاحش الداعي للعشق والحب ، ثم يتسائل الشباب ليه أخواتي سوون تسذا ؟!! ) ..

بدأت أقلد أخي هذا في كل شيء يعمله .... كان قدوتي حينها ؟!! .... حتى في حبه لأم كلثوم صرت مثله ؟! .... صرت أسمعها معه .... رغم أني لا أفهم مرامي كلماتها .... تابعته في كل شيء يحبه .... كنت أسأله عنها وأقول له " إشبها تكرر المقطع وتعيد وتزيد خلاص فهمنا ، تبغى تطول الشريط شكلها " .... كان يضحك ويقول لي "هذا عشان البقر اللي زيك تعيد عشان يفهموو " .... تذكرت هذا الآن وأنا اكتب لكم ..

حين يغيب أخي من المنزل مع أصحابه .... كنت أبحث وأفتش في دولابه ومكتبته .... أقلده في كل شيء ..... وكأن هناك من يدفعني لهذا .... حتى أشرطة الفديو كنت أبحث .... هل أخفى شيء عنّا ؟! ... ودوما كانت يدي تصل لأي فلم يخفيه .... فكنت أتابع كل مايراه ولو من خلف ظهره .... وكنت أصل في الغالب لأي فلم يخفيه ولو تحت مسمى ثانٍ .... وكأن هناك من يدلني على مكان الفلم .... كنت أُسحب دون أن أدري كشاة تُسحب لمسلخها .... كان البيت يسير نحو هاوية سحيقة .... وكان أخي هو الاخر يحتاج من يأخذ بيده ..

لم يكن والدي ليلاحظ الذي يحصل مع حزنه الشديد على وفاة والدتي .... وثقل جاثم على صدره من أكوام اللحم التي تحتاج تربية وانتباه .... وأفواه جائعة تنتظر مايسد جوعها .... وملبس ومأكل .... ومتابعة تجارته وأمواله .... وخادمات دخلن البيت في تلك الفترة واحدة تلو الأخرى .... ووالدي يشترط أن لا يبتن في المنزل .... فبعد أذان العصر بساعة تكون تلك الخادمة قد رحلت ..

يهمني من هذه الفقرة أن أبين أني أحطت نفسي بالمنكرات من كل جانب .... وصار داخلي سوااااااااد .... ولم أعد أشعر بذاك الصفاء الروحي .... وصار داخلي مضطرب .... وإن كان به سعادة .... ولكنها سعادة وقتية وهمية .... كان هناك شيء من عدم راحة او سكينة واضطراب خفيّ يزيد ويزيد دون أن أنتبه له ..

وابتعدت أيضا عن الأذكار والخير والصلاح .... وزاد في الأمر بدأت بنات جيرانا في سحبي قليلا قليلا نحو الهاتف ومعاكسات الهاتف .... ومتابعة فلان وعلان .... والأمر من سيء لأسوء ..

استمر هذا الحال تلك الفترة من البعد عن الله .... والمعاصي والمنكرات تتزايد .... وسددتُ عن تفسي منافذ الخير .... وحرمت نفسي من طوق الأمان والنجاة .... والراحة .... والسكينة .... والطمأنينة ..... لا أذكار .... ولا قرآن ..

وكل هذا وذاك الجاثوم مختفٍ .... كأنه مات أو هاجر لجسد آخر .... أو لعله يُراقب من بعيد .... ولعل كل ما يجري كان من تخطيطه ... ليجعل الفريسة سهلة الأكل .... ولينة اللحم .... وشهية الطعم ؟!!! ..

ثم بدأت تلك المرحلة من القتل البطييييييييييييء ..
بداية الظهور ..
بعد شهر وشوي من بداية الدراسة .... وفي ليلة مظلمة .... سوداء .... داكنة .... ساكنة كسكون الموتى في قبورهم .... لا صوت ولا ريح .... ليلة جاءت بعد تعب في ذاك اليوم .... بعد أن خرجت أخواتي المتزوجات لبيوتهنّ .... استلقيت على فراشي منهكة القوى .... تقلبت دقائق وبمجرد أن دخلت في عالم المنام .... وإذا بي بعد إغماض العين بدقائق .... ماذا بي ؟! .... مالذي يحصل ؟! .... لااااااااااا .... شلل كليّ .. لا أستطيع الكلااااااام .... ولا الحركة .... ولاااااااااا ....

لااااااااااااا .,,, لقد عااااد .... لا أستطيع القيام من فراشي !!! .... وجدت نفسي مكبّلة بالحبال تلك ؟! .... أووووووه .... بدأ الآن ذاك الثقل يعلوني .... الثقل الجاثم على صدري يكاد يهلكني .... عاد ذاك الجاثوم مرة أخررررى ؟!! ....

تعاركت وتعاركت ..... لا أدري مع من ؟! .... ولا بأي سلاح تتعارك مع ما لا تراه ؟! ... تتعارك مع المجهول ؟! .... ظللت أتعارك في محاولة لفك نفسي من ذاك القيد الشيطانيّ .... أتعرف شعور السجين في سجنه ؟! .... أو المصلوب على خشبه ؟!! .... ولا حول له ولا قوة ؟! .... ينتظر فقط .... ذاك أهون .... فهو يرى سجانه ويرى من يصلبه .... ولكن كيف بمن لا يرى من يكبله بالحبال ويقتله بالأحمال ؟! ..

عدتُ أحاول تخليص نفسي وفك تلك القيود المتينة .... كان الأمر شِبه محال .... لم يكن ممكنا وقتها .... كان الإحكام قويا قووويا قووووويا .... التمكن أقوى من قبْل.... ظل الثقل يزيد ويزيد .... والنَّفَسُ يضِيق .... والروح كأنها تُتنزع من الجسد .... لم يكن امامي وقتها سوى الاستسلام .... لساني ثقييييييييييل عن الاتيان بأي حركة .... نعم استسلمت .... تركته يقتلني بحباله وخنقه لي .... لم أفعل له شيء .... لقد كنت أضعف من أن أقاوم .... أضعف مما كنت في الصيف .... لقد تغلب عليّ الآن ..

إلى أن فُكّ عني وذهب في ثانية .... فجأة انحلت الحبال دفعة واحدة .... وبلا سبب ظاهر ؟! ..

بسرعة فتحتُ عيناي .... أسرعتُ وجلستُ فوق فراشي .... لأتأكد أنّي تحررتُ فعلا .... وأخذتُ أحاولُ لملةَ الهواءِ وتعبئة الرئتانِ منه بسرعة .... مع الشعور بالألم في صدري من هذا السحب للهواء ..
حاولتُ تهدئة نفسي .... والتفكيرُ بروية .... بعيدًا عن الفزع الذي يشلّ التفكير السليم ..

عادت بي الذاكرة للصيف الكئيب .... ولتلك العطلة السودااااء .... ولتلك اليدان التي تغوص في بطن أختي .... ولتلك العينان .... وتلك الرياح .... والصرخات التي تشق سكون الليل .... كأني أسمعها الآن تملأ أذني وتخترق طبلتها ..

نعم عرفته .... لقد عاد هذا الشيء .... عاد مرة اخرى .... وعاد معه همٌّ ثقيل .... وضيقة في الصدر لا تُطاق .. قرر أن يحلّ ضيفا للمرة الثانية .... ضيفًا غير مرغوب به دون إذن ولا ميعاد ولا ترحيب به ..

العجيب أني كنت منهكة جدّا جدا .... ومع هذا الخوف والفزع إلا اني ألقيت نفسي على الفراش أريد أن أنام .... هذا الخوف لم يمنعني من العودة للنوم مرة أخرى ..

عدت للنوم .... فعاد مرة أخرى ؟!!! .... لم يكن هذا يحدث في السابق ؟!!! .... وعاد معه الصراخ والبكاء والعويل .... وكان هناك أصوات أطفال يبكون أو يضحكون ويبكون .... أصوات مختلطة متداخلة .... ولكن أبرز الأصوات والذي ينتهي دائما بالصراخ وحده .... هو صوتي أنا .... أنا التي أصرخ وأبكي .... شعرت أن بعودته أخلع ذاك القناع من السعادة الكذابة لأعود لتلك الأيام السود .... في تلك العطلة الكئيبة ..

لقد عاد الجاثوم .... وفُتح ذاك الباب الأسود الذي ظننته قد أقفل مع بداية المدرسة وشُمّع بالشمع الأحمر .... لم أنتبه أنه كان فقط موصدا وينتظر فرصة .... وفي أي لحظة سيلج ذاك الكابووس ويعود لي ..
مرّ هذا اليوم .... والذي بعده .... وبعده .... وبعده .... وهذا الجاثوم - جثم الله عليه بالهم والغم والأحزان والأكدار - يتكرر يوميا .... يوميا .... يوميا .... وفي كل لحظة أغمض عيني فيها .... يأتيني مسرعا .... راكضا .... مادًّا يديه لإيذائي .... عاد بصورة قوية قووووووية .... وعلى نفس المنوال حبال موثقة .... وأحلام مفزعة .... وصراخ .... وبكاء .... ونفسية تعبة ....

نعم عاد ..

ولكن

هناك شيء آخر معه ..

زاد عن السابق بأشياء أخرى ..

جعلت الشك يداهمني في وجود جنيّ يؤذيني متعمدا ..

.
.
.

ربما توافقونني إذا تابعتم تفاصيل قصتي ..
لن أستبق الأحداث ولكن سأسير معكم خطوة خطوة ..
كما فعل هو ..
انتظروني في الحلقة القادمة ...

.. يتبع ..