حلقـــ(6)ـة
عـــــــودة الجاثوم ..

لا مرحبًا بكَ ولا أهلا ولا سهلا أيها الجاثوم ..

أعود لأكمل لكم فصول قصتي .... قصتي التي أوصدت عليها بالمفاتيح والأقفال وأثقل الأحمال .... ووضعتها في صندوق أسود .... بعيدا عن الأيدي .... وبعيدا عن الأعين .... بعض فصول قصتي لا يعلم بها بشر ولا حتى أهلي .... ولا حتى زوجي .... وبعضها لاتعلم به أختي التي تنسق لكم فصول قصتي السوداء .... صندوق ذكرياتي لم أظنّ يوما أن أحتاج لفتحه مرة أخرى .... لكم أثار من غبارٍ وترابٍ وأنا أفتحه .... وكمْ قلب عليّ الأوجاع والآلام والأكدار .... وأسأل الله أن لا يكون في هذا يقظة لذاك البغيض ..

كما ذكرت لكم قد عاد ذاك الجاثوم .... - جثم الله عليه كل همّ وغم جزاءا وفاقا - ..
في البداية .... عادت الحبال .... والشلل الكلي ..
والصراخ المخيف .... الحاد .... الذي يخترق طبلة الأذن .... ويمزق كل ذرة أمان فيك فجأة .... مع صوت رياح حفيفة .... وظلمة وسواد ....

وعادت الأحلام المفزعة كالسابق .... ولم يزد الأمر عن هذا في البداية .... سوى أنّ التوثيق بالحبال كان أشد إحكامًا من السابق .... واشدّ قوّة بكثير .... وأنا أضعف مقاومة ..
ولا أدري مالسبب وقتها ..

وماكنتُ لأفكر في السبب وقد أصبت بحالة من تشتت ذهن .... وضياع .... واضطراب .... وشعور بشيء جاثم على الصدر يجعلني في حال ضيقة مستمرة من كل شيء ..
لم يعد يفرحني شيء .... لا لبسي .... ولا أقلامي ملونة .... ولا زيارة أهلي .... ولا صديقاتي .... ولا كتبي .... ولا دفاتري .... شعور بكآبة في هذا السن المبكر ..
شعور كنتُ أتجاهله وأتركه كلما تركني .... ولكنه كان يترك خلفه بذورًا سوداء صغيرة .... تبدأ بالنمو حالما يُلقيها ..

داخلني الهمّ والكدر مع زيادته بعد العودة .... وتتابعه بلا رحمة .... هكذا فجأة عاد .... اختار الوقت المناسب وعاد .... وربما كان ينتظر الفرصة ليتقدم .... وهكذا فجأة قاتل بكل شراسة وقوة ..
لو كنت اعرف أنه سيعود ربما استعددت له .... أو أقلها لم يكن هناك عامل المفاجأة الذي قتل كل شيء حلو نما في تلك الأيام ..
ورغم سني الصغير شعرت وكأني قد كبرت فجأة .... وصرت أشلاء مبعثرة كحبات سكر أو رز .... وبدأت أعرف شيء اسمه ضيقة الصدر .... والسرحان الغريب .... وعدم القدرة على التركيز في الفصل ..

وبسبب أفعال هذا الظالم لم أكن أهنأ بنوم في الليل .... فصار غالب نومي بعد عودتي من المدرسة .... وفي الغالب صرت أنام بلا أكل .... ولا أدري شيء عن المنزل .... ولا إخوتي الصغار ..

شيء شتتني وأبعدني عن كل شيء ..

وبسبب النوم الطويل في العصر .... تبعه السهر في الليل .... وصار النوم قريب الفجر .... وهذا الظالم يلاحقني في نومي ليلا او نهارا .... وفي الأصوات الغريبة .... ولم يكن أحد منا يجرؤ في الليل الذهاب لجهة البيت الأخرى .... سيأتي وقت واخبركم ماهي جهة البيت الأخرى ..

وانعكس هذا على حضوري في الفصل .... تمر الحصة الأولى والثانية في الغالب بسلام .... ولكن في منتصف الحصة الثالثة لا أفهم حرفا مما تقوله المدرسة ..
كم من مرة أُوقفت بسبب سقوط رأسي على الطاولة والنوم في الفصل بلا شعور .... يأتيني نوم شديد جدا في الحصة الثالثة التي تكون قبل الفسحة .... وصرت حتى أشغل نفسي ليهرب النوم من عيني .... ولأوهمهم اني يقظة ... كنت أُمسك القلم واكتب في دفتري وقت الحصة .... وأظل أكتب وأكتب .... من يراني أكتب يظنني أكتب كل حرف تهذر به المعلمة .... أو أنني حتى أفهم ماتقول ..... كان شرحها غير مفهوم .... وفي الحقيقة كنت لا أدري وش كتبت .... فقط أحرك القلم وأنثر الحبر الأزرق على دفتري .... وحينما أعود للمنزل وأفتح دفتري ذاك .... لا أفهم حرفا مما فيه .... مجرد خربشة طفل عمره سنتان .... كأنه يكتب بلغة أخرى .... واضطررت فيما بعد لإعادة كتابة المنهج من دفتر إحدى صديقاتي ..

بدأ البعض في الفصل يلاحظ عليّ الشرود .... وبدأت أسمع وشوشة هنا وهناك .... حول وفاة والدتي .... وزواج أخواتي .... وبقائي وحيدة في المنزل مع الصغار .... وكلمتني إحداهن مرة ونحن في السيب الطويل الذي بين الفصول .... " ليه تسهرين .. ليه ماتنامين كفاية .. وش يسهرك .. وشبها عيونك كذا .. ووووو " .... هززت رأسي ومشيت .... حتى الكلام لم أعد أرغبه .... كنت كأنني أنسلخ من عالم الأحياء لعالم آخر .... لا يمتّ لعالم الإنس بصلة ..

بدأت أتحاشى الجلوس مع زميلاتي في شلتنا الكبيرة وانفردت مع كم(ن) وحدة في شلة أخرى أصغر .... وبدأت أبتعد قليلا قليلا عن تلك الشلة التي كنت أعشقها وأحبها .... لا ادري مالسبب للآن .... هل بسببه هو الذي يبعدني عن الإنس الذين يضايقونه ؟! .... أم مني أنا خوفا أن يلاحظون تغيّري ؟! .... كنت انفرد بأي حجة ولو أن أذاكر مثلا بحجة أني لم أكمل في البيت .... مع اني كنت أرى في عيونهم تساؤلات لا تتجاوز حناجرهم ..

في الغالب حينما أنفصل عن شلتنا في ساحة الفسحة .... تأتي معي واحدة أو اثنيتن أو ثلاث من تلك الشلة .... ربما شفقة عليّ .... وربما لاستعادتي .... كانت القريبات مني في تلك الفترة أربع صديقات .... وحدة شهرية أو سهلية كانت طيبة لأبعد حد وهادئة جدا وكانوا دائما ينعتونها بالبدوية يريدونها أن تعصب بأي شكل .... ووحدة غامدية قوية الشخصية .... ووحدة من الأشراف دافورة .... ووحدة حضرمية هي الأقرب لي من الباقيات إذ كن صديقات أول ثانوي .... أما هذه الحضرمية فقد كانت صديقتي من الابتدائية وظلت معي في كل الفصول في نفس الفصل إلى أن تخرجنا سويا من الثانوية .... هذه الحضرمية أول يد امتدت لمساعدتي .... أسأل الله ان يجزيها عني خير الجزاء .... وسياتي الكلام عنها في حينه .... ولماذا اخترتها من دون الجميع .... سيأتي لاحقًا ..

صرتُ أجلس في المدرسة وكأني جالسة على جمر مشتعل .... كنت احسب الدقائق والثواني متى أعود للبيت .... صرت أحب البيت كثيرا .... وكرهت المدرسة كثيرا .... وبدأت أرتاح للبقاء فترة أطول في البيت .... لم أعد أرغب بالخروج من منزلنا .... وكلما خرجت للسوق أو لزيارة أفكر فقط متى أعود لبيتنا .... ومرتين بكيت في المدرسة بسبب هذه الرغبة الغريبة .... كنت أشعر بشيء سيحدث هناك ولا أريده أن يفوتني .... أو أن هناك شيء يريدني أن أعود ..

أتذكر حصل مرتان أن انفجرتُ بالبكاء في السيارة .... لا أدري كيف صار هذا .... فجأة وجدت صوتي يعلو بالبكاء بشكل هستيري .... حصل هذا بعد أن حرّك والدي سيارته الممتلئة بي وبإخوتي وبنات جيراننا .... وقتها أخفيت وجهي يوسط حشوة الكنبة الخلفية حتى لا يسمع صوتي والدي .... شعرت بيد تضغط برأسي وتدفعني سط الحشوة حتى لا يظهر صوتي .... ورأس يقترب مني خائف .... " وش فيكِِ ؟!! " .... كانت بنت جيرانا التي معي في الفصل .... لم اخبرها وسكتت .... بدأت تثرثر وتتكلم لا ادري وش كانت تقول .... ويبدو أنني نمت وقتها .... ألم تلاحظون ؟! .... صرت أنام في كل مكان ؟!!!!!!!!! ..

انقلب حالي من جرّاء عودة هذا الكريه الذي لم أصدق أنه ذهب ورحل .... كأنه انبعث من قبره مجدّدًا .... أصعب شيء أن تقاتل عدوا لا تراه .... تقاتله بكل أسلحتك وترتسم علامات النصر على شفتيك حين ترى غباره وهو يفرّ .... فإذا خارت قواك وفقدت كل سلاح في مِخزنك ..
عاد لك مرة أخرى متسلحا .... وأنت بلا سلاح .... عارٍ من كل قوّة .... ضعيف .... مسكين .... تقتلكَ شكّة الإبرة .... بالتاكيد ستستلم بدون أي مقاومة ..
عودة الأحلام المفزعة ..
عادت تلك الأحلام .... وعادت تلك الصرخات الحادة التي تفيقك من نومك .... غالب الأحلام في تلك الفترة يصاحبها صراخ وبكاء وتوثيق بالحبال ..

تكرر كثيرا أحلام تدور حول محاولة الصعود إلى الأعلى في مكان ضيق .... مع شعور حقيقي بخفقان القلب من هذا الارتفاع .... وصدر يعلو ويهبط كأني أطير .... ويستمر الخفقان والشعور بأنك على مرتفع كبير كانك على قمة جبل ويستمر الشعور حتى بعد الاستيقاظ .... ويكون كل ماحولك سوادا وصوت رياح وزمهرير تجعل قلبك ينخلع الآف المرات قبل ان تستيقظ .... ( إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المجادلة : 10]

وقد يكون الحلم سلالم كثيرة في مكان ضيييق جدا .... وأظلّ أصعد .... وأصعد .... وأصعد .... دون توقف ولا وصول .... وكلما صعدت أكثر .... ابتعدت عن النجاة أكثر ..
أو تكون في جحر كالفأر .... دوما هي أحلام تجعلك تدخل في اليأس من الخروج مما أنت فيه .... أحلام تقتل النفسية في الصميم .... وتقتل الفرحة في مهدها .... أحلاما تحكي شخصا يائسا .... أو تجسّد اليأس والحزن والصراخ .... أو تُياّس الشخص من النجاة والخروج من المآزق ..

ووسط تلك الأحلام تكرر سماع أصوات بكاء أطفال صغار .... تختلط أصواتهم في ذهني مع بعضهم حتى لا أستطيع أميز هل هم يضحكون .... أم يبكون .... أم يلعبون .... ثم يختلط بأصوات اخرى مفزعة أصوات ليست بأطفال كانك تستمع لقبيلة بأكملها تصرخ .... وصوتهم ياتي من الأسفل .... من القاع .... من تحت الأرض ..
يظلون يصرخون .... ويصرخون .... ويبكون .... صوت مزعج .... ويُضايق .... ولا يريجك أبدا .... ثم أبدأ بالصراخ معهم .... أصرخ .... وأصرخ .... وأصرخ .... وأزيد في علو صوتي .... ربما ليصمتون .... أو ليعلو صوتي على صوتهم فلا أعود أسمعهم .... وفي النهاية .... يختفي صوتهم هم .... وأظلّ أنا أصرخ وحيدة .... ثم يبدأ هذا الجاثوم بالحضور .... وتبدأ عملية بشعة من قتلك ببطئ شديد ..


غالب أحلامي تكون قديمة .... ذات صور باهتة .... وبعضها بلا ألوان .... ويكثر فيها وجود الأوراق الكثيرة في الأرض .... حتى أني في بعض الأحيان أسبح وأنا أخترق هذه الأكوام من الأوراق .... التي تصل إلى متصف الساق ..

دائما الأحلام فيها شيء من رهبة .... وقِِدم .... وسواد .... وريح .... مباني قديمة .... وعالية الأسقف ومخيفة المنظر .... ودائما أكون وحيدة .... وكل ماحولي خلاء فارغ .... وصوت ريح تأتي وتختفي .... وإن كنت أشعر أني لست وحيدة في الحلم ولكن لا أراه ....

كم من مرة حلمت بمثل هذا السلم الضيق .... أظلّ أصعد .... وأصعد .... وأصعد .... ولا شيء غير الصعود .... ولا أنتهي إلى شيء .... وكلما صعدت أشعر اني أبتعد عن المخرج اكثر .... وفي الأسفل أشعر بشيء ينتظرني ليلتهمني .... فأظل في خوف وفزع من الصعود للمجهول .... وأيضا من السقوط للمجهول ....ومن التوقف أيضا أن يصعد لي الذي في الأسفل .... فلم يكن لي من خيار سوى الصعود .... ثم يحصل سقوط فجائي .... أصرخ بعدها بهستيريا متتابعة .... صراخ .... صرااااخ .... ويبدأ الظلام يزداد ويحيط بي من كل جانب .... وجسمي يغوص في الظلام والظلام والظلام .... وأحاول النهوض من النوم والاستيقاظ .... دون جدوى .... تبدأ مرحلة الحبال الموثقة .... والثقل الجاثم كجبل يبدأ في الصعود على الصدر .... ويبدأ الصراخ والبكاء دون جدوى .... إلى ان يقرر ذاك الكريه الرحيل فجأة دونما سبب ظاهر ..

أتذكر شيء واضح وملفت للنظر .... كان هناك شيئان متعاقبان دوما .... يأتي الأول ثم الثاني ولم يحصل العكس أبدا .... أول شيء يكبلك تماما .... شلل كليّ وعدم قدرة على الحركة .... ثم يبدأ شيء ثقييييييييييل كالجبل يعلو صدرك بالتحديد .... ولا تشعر بثقله في مكان آخر .... وكأنه يُمسك بعظام القفص الصدري .... ويضمّه ضمّا شنيعا .... تشعر بقرب انفجار تلك العظام وطيران قلبك من مكانه من ثقل الجبل الذي فوقه ومن ثقل الفزع والخوف والرعب الذي يعيشه ..

وأحيانا يكون الحلم عدم القدرة على الخروج من مكان غائر في الأرض .... وجدران سوداء مخيفة قديمة .... والظلام يحيط بك من كل مكان .... وتشعر أنك بعييييييييييييد في أغوار الأرض .... ويصاحب ذلك دوما الصراخ العالي المزعج .... وصوت رياح وظلمة وسواد غريب .... مع إحباط شديد ويأس من الخروج من هذا المكان المظلم المخيف ..
لا أتذكر من تلك الأحلام أني نجحت في الخروج من تلك الأماكن الضيقة المظلمة الموحشة .... هناك من يسحبك لتصل للحضيض وتنزل نفسيتك لأسفل الأرض .... ثم في النهاية قد لا تجد امامك خلاصا إلا ان تنتحر !! .... وربما هذا كان مسعاه ..

ربما يرجع هذا لنفسيتي التي ساءت بعد عودة هذا الجاثوم .... أو أن هذا الجاثوم عمله الحقيقي هو إيذاء الإنسي .... وإدخال الحزن على قلبه .... وجعله محبطا يائسا .... فيظلّ يلعب بعقلك رجاءً أن تؤذي نفسك بنفسك حين تتعب من هذا الكم من اليأس .... ( إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المجادلة : 10].... كان يعمل بجهد منقطع النظير لإيصالي لحافة الهاوية .... وكانه يوصل لك رسالة غير مباشرة .. أقتل نفسك لترتاح ؟!! ..

وفي ظني هذا ما يسعى له ويحاول لعله يُفلح .... شيء أشبه بالتحطيم والقتل النفسي.... تفهم منه إشارة موجهة لك .... " لا مفـــــرّ مني ولا مخـــرج فلا تحـــــاول المقاومة " .... تربية على الاستسلام وعدم المقاومة .... موتٌ بطيء بطيء للغاية .... من أبشع الموتات .... إن لم يُدرك الإنسان نفسه .... ويُدركه ربه برحمة منه ..

.

.

.

في الحلقة القادمة
عودة الجاثوم بثوب جديد وحُلّة بشعة ...
عودة الجاثوم ليست كالسابق فقد طوّر أسلحته ..
وأضعف ضحيته وتمكّن منها جيدًا ..
عاد حاملا معه ..
1/ الأحلام المخيفة والأنين والصراخ توسع حتى صار في حال اليقظة ..
2/ العلم بأشياء قبل وصول الخبر عنها ..
3/ ظهور علامات حسية على الجسم ..
وعلامات أخرى أشدّ وضوحا ستتضح مع الحلقات المتأخرة ..

في الحلقة القادمة سأذكر أمثلة على آخر نقاط ختمتها هنا ..
عليكم بأذكار الصباح وأذكار المساء وأذكار النوم ..
هذه الثلاثة معا لا تتركونها لتقضوا عليه ..
مع ورد القرآن والتوكل على الحي الذي لا يموت ..
رحم الله الخائف منكم وكفّ الله عنكم شياطين الإنس والجن ..
على موعد معكم في الحلقة المقبلة ..
لا تنسوني من دعــواتكم ..
.. يتبع ..