حلقـــ(8)ـة
مخالب وفئران

أكمل معكم أعزائي القرّاء فصول أسوء فترة من حياتي .... أتعبني نفسيا سردها .... وعادت ذكريات تجاهلتها ونسيت تلك الأيام .... ولم اجرؤ حتى على إعادتها مرورًا في ذهني .... نسيتها .... وتناسيتها .... وتناساها كل من حضرها .... وأقفلت عليها بكل مفتاح .... داخل صندقٍ محكم الإغلاق .... وضعته تحت الأرض .... لكن مازال بالنفس أثر من غبنة وحزن .... وإن تغيرت الأحوال .... لكن لن أنسى مامرّ بي .... ولا أتمنى أن يمرّ بكم مارأيته .... ولعل في كتابتها كسر لشيء باقٍ داخلي .... من سواد تلك الليالي الحالكة .... لا اعادها الله .... والحمد لله على كل حال ..

بعد تزايد الأمر معي مابين عراك النوم وأصوات النين .... كنت أشعر بشيء ينسلخ مني .... لا أدري ماهو .... هل هو الأمان ؟! .... هل هي الروح االعاصية البعيدة عن كلام ربها تطرد مابقي لي من أمن وإيمان .... لم أكن فلانة تلك .... فقدت البسمة .... فقدت الضحكة .... فقدت الهدوء .... فقدت السكينة .... فقدت البراءة ..
تغيرت كثيرا .... لم يعد يفرحني شيء .... وصار الصمت خُلُقي .... والخوف حليفي .... والشك صديقي .... والشكوك رفيقي .... والوحدة نديمي .... حتى صرت في بعض الأحيان أكلم نفسي .... وأفكر مع نفسي .... لا أدري لم فقدت الثقة بكلّ من حولي .... إلا قُطَيْرات من هُنا وهُناك من رحمة ربي بي .... مابين بنات الجيران .... وزميلات الدراسة اللاتي حففن بي وإن لم يُدركنني صحيح .... ولقاءات أسرية دافئة كل أسبوع ..

مرّت تلك الأيام كباقيها .... مع هذا الثقل في النوم .... وذاك الجاثوم الذي لا يفارقني كلما عفت عيناي الصغيرة .... ليجثم على صدري .... غير آبهٍ بطفولة ولا حزن ولا يُتم .... سرق مني طفولة في أخر مراحلها .... سرق وفرحتي .... سرق سعادتي .... حتى أصبحت اخشى من كل شيء .... وأشكّ في كل شيء .... وبدأت تلك الفكرة المجنونة تهاجمني وترعبني .... جنيّ .... جنيّ يحاول احتلال عقلي وجسمي .... غياب الحقائق عني جعل الأمر مهولا في ذهني .... وأنه متى عرفني ووضعني في ذهنه فسيصل لي حتما .... وصِغَر سني ساعده .... وظروفي أكملت فصول المسرحية .... وصار الخوف سيد الموقف .... والمتربع على عرشه .... ووقعت أسيرة عنده يفعل بي ما شاء ... وصرت كدالس على طرف البحر يضرب به يمينا ويسارا ..

الخوف في حدّ ذاته قاتل لكل شيء جميل داخلك .... الخوف من الابتلاء العظيم لهذا قدّمه الله في الآية على كل أنواع البلاء فقال سبحانه ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة : 155] .... فكيف إذا خفت مما لاتعرفه .... ومما لا تراه .... نعوذ بالله من الخوف ونسأل الله الصبر ..

بدأت حياتي تاخذ منحنىً آخر .... مع تغير مايداهمها من مخاوف .... وبدأت أحلّل مايجدّ عليّ من أحداث .... على قدر عقلي الصغير ..
[1]
عَوّاش بنْ هبيشه
( اسم وهمي قريب من المقصود )
يوم الأربعاء ..
هو يومٌ رسميّ لاجتماع العائلة الكبيرة ( حفظها الله ) ....

ومازال هذا المرسوم إلى لحظة كتابة هذه السطور .... في هذا اليوم تجتمع فيه أخواتي كلهنّ .... منهنّ من تحضر الغداء .... ومنهنّ من تحضر بعد العصر .... حسب أحوالهنّ .... ويغادرن جميعهنّ في الليل .... مالم تقرر إحداهنّ البيات ..

ذاك اليوم حضرت واحدة منهنّ فقط على الغداء .... هي التي تكبرني بسنتين .... والتي تزوجت قبل أشهر .... كانت ذاك الوقت تدرس في ثالث ثانوي .... أحضرها زوجها (ولد عمتي) من المدرسة وذهب ..

كانت الساعة الثانية ظهرا وعليها .... جلسنا كلنا مع والدي في المجلس .... وكان الجميع حاضر .... كان والدي يسألها عن حالها وزوجها وحياتها .... كلام يدور في كل البيوت .... بعدها نظر لي والدي وأشار لي لأذهب للمطبخ لتجهيز الغداء مع الخادمة .... فحملت كاسات كانت على الطاولة .... ووقفت أستعد للذهاب .... ولكن استوقفتني كلمات أختي ..

: عَوّاش بنْ هبيشه مات أمس الليل ..

وقفتُ مكاني ولم اتحرّك ثم رجعت لداخل المجلس ..
والدي يسألها : الله يرحمه دفنوه ولا لسا ....
أختي : ما أدري عبد العزيز الحين توه قال لي في السيارة جاهم الخبر أمس في الليل ومالحقتْ تقول لي عمتي فقالت له يقول لي عشان أقول لك ويمكن اتصلت عليك ولا رديت ..
هزّ رأسه وهو يترحم عليه ..

بدأت أختي تسأله عن هذا الرجل من يكون .... فأخبرها أنه يعرفه من زمان .... كان لهم علاقة به ثم رحل الرجل لقرية ما بعد حالة نفسية أو مشكلة حصلت له .... وعاش هناك .... وانقطت أخباره يمكن عشرين سنة .... والآن جاء الخبر بموته ..

وقفت أختي وسحبتني معها لنذهب للمطبخ سويا .... اتجهنا لشق البيت الجديد حيث المطبخ هناك .... بقرب تلك الفسحة الصغيرة .. وذهني يسير بدرجة 1000 وات ..

سألتها ونحن نسير باتجاه شق البيت الجديد : مين عَوّاش بنْ هبيشه هذا ؟! ..
ردت وقالت : ما أعرفه ولا عمري سمعت باسمه عبد العزيز قال لي في السيارة دوبه ونحن تحت البيت قبل يروح ..
سألتها : أنت اتصلت أمس الليل وقلت أنه مات ؟! ..
نظرت لي بغرابة لغباء سؤالي ..
قالت : أنا ماعرفت إلا ذلحين وما أعرفه أصلا واسمه أصلا غريب ..
وصلنا للمطبخ فدخلت وهي توجه كلامها للخادمة ..

كنتُ حينها بلا جسم ولا روح .... لا أدري مابي .... لم أستطع أن أقول لها أني أعرف هذا الرجل ؟! .. أعرف عَوّاش بنْ هبيشه وأعرف انه مات ؟!! .. والمصيبة أني عمري ماسمعت بهذا الاسم .... والله ما أعرفه ..

لكن حين تكلمتْ أختي وجدت أنّ هذا الاسم ليس لأول مرة يمرّ عليّ مع كونه غريبا .... وجدت أن شخصا اسمه عَوّاش بنْ هبيشه موجود في الذكرة .... وأيضا أعرف أنّه مات ؟! .... مرّ الوقت وذهني مشغولا جدا بهذا الأمر .... وأنا أفكر مالوسيلة التي عرفت من خلالها بموت هذا الرجل الذي لا أعرفه ؟! ..
حاولت تذكر أي اتصال حدث بالأمس ؟! .... لا أتذكر .... أرجأت الأمر في ذهني لحين حضور بقية أخواتي .... سأعرف منهنّ ..

ماين العصر والمغرب .... كانت أخواتي قد اجتمعن كلهنّ .... وتطايرت الأحاديث بينهنّ حول أخبار كل واحدة مع أهل زوجها ومن هذه الأمور .... وفي لحظة صمت فيها الكلّ .... وجدت الفرصة سانحة لأرمي هذا الخبر بينهنّ بطريقة عادية .. : عَوّاش بنْ هبيشه مات ..

سكوت لثوانٍ .. أعقبه سؤال أختي الكبيرة ( أكبر مني يحول 13 سنة كانت بمثابة الأم لنا ولازالت ) : مين َعوّاش بنْ هبيشة ؟ .. سكتّ وأنا أراقب الجميع .... علّني أعرف الكيفية التي عرفت بموت هذا الرجل الذي أسمع اسمه لأول مرة .... انتظرت إحداهن تقول أنها اتصلت بالأمس وأخبرتني بهذا .... ولكن بقي السؤال ينتظر جواب ..
بدا الاستغراب على وجه أختي التي أخبرتنا بالخبر .... ثم اندفعت لتخبرهم من يكون هذا الرجل وما اخبرها به والدي .... لم يهتموا بالأمر كثيرا إذ لم يعرفوه .... ولم يسمعوا باسمه .. كما توقعت لا يعرفه أحد .... لا يعرفه إلا الكبار لأنه لم يكن متواجدا عندنا إلا من عشرين سنة ؟! .... يعني من قبل أن أولد ؟!!! ..

حملت صينية الشاي والأفكار تعصف بي وأنا أجر رجليّ جرا جهة شق البيت جديد .... نعم أعرف أنه مات ؟! .... لا أدري كيف ؟! .... وَهَم .... لابد أن أقتنع أنه وهم .... حتى لا أجنّ .... هذا الأمر لم أخبر به أحد لليوم .... ولا أدري هل هو حقيقة .... أم وهم .... أم جنون .... أم تهيؤات .... كتهيؤات ذاك الصوت الذي سمعته لامرأة تأنّ .... ولكن أنبهكم أن هذا من الغيب الجزئي لا الكلي .... إن لم يكن وهَمًا ..
مر بقية اليوم مع اخواتي ككل أربعاء .... هو من أجمل الأيام عندي التي نسترجع فيها ذكرياتنا وأخبار بعضنا .... واستمتع جدا بأخبار أخواتي وخصوصا اللاتي تزوجن قريبا .... وكلا تحكي حياتها الجديدة .... ولم احب أن أعكّر على أحد ولا على نفسي بفتح ذاك الموضوع .... لعله يموت حين أُميته بعدم الذكر .. مرّ اليوم سريعا كعادة الأوقات السعيدة تمر بلمح البصر ..
[2]
بين مخالب
الشياطين والفئران
>>


ليلٌ حالك .... وسكونٌ هالك .... وهدوء سالك .... وضِيقٌ حابك .... كل هذا كان حولي شابك ..
صراخ مفزع .... وأحلام غريبة .... وصوت ريح .... وشعور دوما بالارتفاع .... خفقات القلب تكاد أن تقتلعه من مكانه .... الصراخ .... والبكاء .... والأصوات .... والريح .... وشيء من ضحك .... وتلك الكلبشات التي تربطني .... كل هذا وسط هذا السواد .... سقوط من مكان عالٍ .... صراخ .... سواد ..

انتقلت الصورة لأرى نفسي في مكان ما .... أسود صحيح .... ولكن أشعر بجدران حولي .... ليس فراغا .... هناك جدران أشعر بها وأعرفها .... لكن السواد يعميني عن معرفة هذا المكان ..
بدأ نورٌ ضئيل لا أدري من أين .... وفي الحقيقة هو ليس بنور ولكن بدأت ألمح شيء مما حولي .... طرف خِزانة كبيرة أرى طرفها أعلاي .... وشعرت بأكياس معلقة خلفي .... عرفت المكان .... عرفتُ أين أنا .... في المخزن الكبير .... في شق بيتنا الجديد .... ذاك المخزن الذي سحبت منه سلما لأرتقي عليه جدار الفسحة الصغيرة .. ذاك المخزن لم يكن محلا لجلوس أحد .... وإن كان كبيرا وبراحا .... كان تقريبا 5×5 م .... كان في الأصل غرفة كبيرة لاجتماع العائلة للغداء .... لأنها بجانب المطبخ .... بناها والدي خصيصا لهذا الغرض .... ولكنها تحولت لمخزن لكراهتنا لتلك الغرفة ..

كنت أكره جلوسنا فيها .... ويبدو هذا شعور تكرر عندنا .... فحولها والدي لمخزن .... مخزن كبير للأطعمة والمعلبات وسطول الرز والسكر والزيت .... يتوزع على خزانات مكشوفة .... على كل جدران المخزن الأربعة ..
ونتيجة لهذا كان مغريا للفئران .... التي تتسلل له من الأسطحة .... تنتقل من البيت القديم عبر سطوح لسطوح .... لتنزل في آخر المشوار في هذا المخزن .... وبالطبع كان هناك المصيدة والغراء .... ولكن لم يتمكن والدي من القضاء عليها .... إلى أن خرجنا من ذاك البيت .... وبقيت تلك الفئران تسرح وتمرح فيه .... كان في ذهننا أن هذا المخزن يرتبط بالفئران .... لأنه مصدر لإعجابهم وغرامهم وزياراتهم التي لا تنقطع عنه أبدا .... خصوصا في الليل ....

المهم في هذا الحلم من بين السواد عرفت أني في هذا المخزن .... وقريب من الباب أيضا .... لأني رأيت طرف آخر الخزانة .... وشعرت بالأكياس خلفي .... هذا المكان في آخر المخزن .... ولو رجعت للخلف مترين أو ثلاث لدخلت في تلك الفسحة الصغيرة المذكورة في الحلقة السابقة ..

المهم عرفت أني في هذا المخزن رغم السواد المحيط بكلّ شيء .... فجأة شعرت بألم في يدي .... في الساعد .... قريبا من المرفق .... في يدي اليسار تحديدا .... شيءٌ قريبٌ من لسع النار .... أو الكي بالنار ..
وفي وسط الظلام مددت كفي لأمسح مكان الألم ..
انتبهت حينها لعيني فأر قرب اليد ..

ذاك الفأر لم يكن خائفا كعادة الفئران .... بل كان ثابتا ينظر لي ويمخش ببطئ شديد بأظافره يده الصغيرة على ساعدي .... ناظرا لي غير خائف .... ولا آبه .... كعادة الفئران الجبناء .... فأر كبير ممتلئ سِمنًا .... واستمرّ المخش .... أو تكرر .... لا أدري .... والفأر ينظر لي ويمخش ببطئ .... ثم اختفى ..

وبعدها اختلط المنام عندي .... واختفت الصورة .... وبدأ الصراخ .... والعويل .... والرياح ..
وبدأت الحبال والأقفال تسلسلني .... وبدأ العراك مع المجهول ..

وبدا لساني ثقيلا جدا .... كشخص يحتضر .... أحاول نطق الشهادة .... واللسان كأنه معقود عليه ومربوط .... استطعت نطق كلمة ( لا ) بمشقة كبيرة .... لا أستطيع تحديد الوقت الذي أخذ مني لأنطق هذين الحرفين .... فقط الألف واللام ؟! .... ولولا أن النائم لا يقدّر الوقت .... لقدرت تخمينا يمكن عشر دقائق أخذ مني نطق اللام ألف هذه ؟!!! .... وبالمشقة أكملت ( إلا الله ) .... كنت أنطق حرفا حرفا بمشقة كبيرة .... كأخرس نطق بعد خمسين سنة .... وفكّ عني كل شيء ..

فتحت عينيّ .... وأنا ألتقط الأنفاس .... والسكون بحف بالمكان .... والهدوء الغريب حولي .... وفي ثوانٍ ألقيت رأسي على الوسادة مرة أخرى .... من التعب .... لا أدري ماسبب هذا التعب .... ليبدأ العراك من جديد والصراخ والبكاء ..

نعم هذه عقوبة القلب الخالي من ذكر الله .... قلب ميّت .... كيف للشياطين أن لا ترتع فيه وتلهو وهي آمنة مطمئنة ؟!! ..
قلب لا يعرف القرآن إلا في رمضان ؟! .... ولا يعرف الأذكار البتة ؟! ..
كيف لمثل هذا القلب أن يكون أنيسه الملائكة ؟!! .... يالغبائي عشت أياما سوداء كسلا من قراءة سطورٍ لا تأخذ مني دقائق من يومي الطويل .... فيما كنت أقرأ مجلدات من كتب المدرسة .... قلبٌ ميت يرتع فيه الشياطين ..

في الأخير استيقظت .... كان النور رقيقا .... والهدوء له رفيقا .... ظننته الفجر .... وضيقٌ تسرب لي من فكرة الحركة استعدادًا للمدرسة .... ثم تذكرت أن اليوم خميس .... واستوعبت الوقت .... كان المغرب لا الفجر .... صارت أيامي مقلوبة .... لا أدري الليل من النهار .... كلها سواء .... كلها همّ وغمّ وخوف وبكاء ووحدة وحزن وبعدٌ عن الله .... كلها سوادٌ وظلمة .... ماين ظلمة الليل وظلمة هذا القلب المريض ..

صحوت .... وصليت .... وأظنّ أن اخواتي كنّ مستيقظات .... ولكن كنّ بعيدا في مكان آخر .... لا أذكر الآن .... لأن رأسي كان به صداع قوي .... وثقلٌ جاثم على الذهن .... وضجر ....

ونسيت كل شيء عن ذاك الحلم .... نسيته فعلا .... ولو لم يحصل ماحصل ما سياتي الآن ماتذكرته ..

توجّهت للمطبخ في شق البيت الجديد .... لأعدّ لنفسي ثلاجة شاي .... لم يعد يكفيني البراد .... فصرت أضع الشاي في الثلاجة الكبييرة لتبقى ساخنة طوال اليوم لليل وأنا اتجرّع في هذا المنبه ..

توجهت للمطبخ .... والظلام الخفيف ينسدل يغطي نصف العالم في هذا الوقت .... ويُرخي سدوله على الأنام .... دخلت المطبخ وبدأت في إعداد الشاي .... وضعت الماء على النار .... وجدت البرّاد وباقي شاهي والدي باردا .... تركته الخادمة وذهبت لأنه لا رقيب يحاسبها .... بدأت بغسله .... وفيما أنا أدير الماء لإزالة الصابون من البراد .... شعرت بألم شديد في ساعد يدي اليمين ..

مددت كفي اليسار المبللة بالماء أتحسس مكان الألم .... وحالما مس الماء تلك المنطقة .... شعرت بلهيب نار مكانها .... أدرت رأسي أنظر مالخبر .... لأجد أربع خطوط حمراء ملتهبة !!!..

خطوط حمراء رفيعة جدا بالكاد يبلغ عرضها 1 مل .... أربع خطوط متوازية .... بطول نصف شبر تقريبا .... تبدأ من منتصف الساعد إلى آخر المرفق .... وكان قليلا من الدم قليلا جدا يتسرب منها لا يكاد يُلحظ .... ذُهلت حينها .... وتركت البراد الذي في يدي .... وأنا اتحسس تلك الخطوط الدقيقة جدا .... والمحمرّة .... وكنت أشعر بشبه نار تخرج من يدي .... أخذت من الماء الذي يصبّ من الحنفية وبدأت أرشّ على تلك الخطوط علّ تلك الحرارة تنطفئ ..

شعرت بعدها أن كل اليد تؤلمني .... هناك ألم آخر .... تحسست يدي .... رفعت كم قميصي .... لأكتشفت خدوش أربعة طويلة أخرى .... من أُظافر رفيعة حادة .... ونفس الألم كأنه للتو قد حصل .... تعجبت من دقة الخطوط .... كانت دقيقة جدا ونحيلة ومتوازية وحمرااااء ..
كان واضح جدا انه يرجع لأظفر صغييير وحاد الطرف جدا ...حتى أقرّب لك صورته .... أحضر دبّوسا ومرره بقوة على ساعدك .... سمك تلك الخطوط .... بمثل مايتركه ذاك الدبّوس على ساعدك ....

تذكرت وقتها ذاك الحلم .... نسيته تماما تماما .... حتى كنت أشك هل هو حلم ولا تهيؤات ؟! .... الفأر .... والمخزن .... أهو ذاك الفأر؟! ..

آآآآآآآآه .... أشعر بنار تخرج من تلك الخطوط .... اتجهت لبراد الماء .... وبدأت أرشّ منه على يدي .... كان الألم حسيا ومعنويا .... شعرت بلفحة برد وأنا أتذكر نظرة ذاك الفأر الغريبة لي .... أهو فأر فعلا ؟! ..

هل من الممكن أنّ الفأر أتاني متسلّلا وتلحّف معي في الفراش وبادرني بتلك الخدوش .... ثم أكون أنا رأيته وكنتُ في نصف يقظة وترجمه عقلي بشكل حُلم ؟! .. ولكن لما رأيت المخزن ؟! .... نعم كنت أخاف من ذاك المحزن بسبب الفئران .... ربما هذا السبب الذي جعلني أربط بين رؤية الفأر والمخزن .. شعرت بتفاهة ما أفكر به .... بل بجنونه .... وش هالغياء .... كان ذهني مختلط جدا وقتها بسبب هذه الخدوش .... تفكيري يشرّق ويغرّب ولا ياتيني بنتيجة مريحة .... تمنيت والله وقتها أن يكون هذا كابوسا .... وأكون مازلت في نومي .... ولم أصحو بعد .... أتمنى أن أفيق ويدي سليمة ليس فيها شيء ..

توقفت كل أفكاري مع سماعي صوت الجرس .... وصياح أخواتي لفتح الباب .... الحمد لله سمعت حس بنات الجيران ..
بدأت الخطوات تُقبل للجهة التي أنا فيها .... وضحكاتهم تسبقهم .... لا عُدمتْ تلك الضحكات .... كانوا بنات جيراننا الثنتين .... التي تماثلني .... والأخرى الكبرى التي أطلقت صرخاتها في ذاك اليوم .... أسدلتُ كمي على الخدوش العلوية .... أما التي على الساعد فظاهرة .... سلمت ورحبت بهنّ .... تمنيت وقتها أن أقبل أيديهنّ لحضورهن ذاك الوقت .... قد تستغربون حضورهم في أي وقت .... جيرانّا كانوا شفيقين علينا عموما وعليّ خصوصا .... وربما هي وصايا أمهم حتى تذهب تلك الوساوس عني .. فرحت بهم وبقدومهم .... فرح الخائف لتوه .... كنت خائفة مما رأيته للتو .... بل مرعوبة .... فرحت حين أتوا حتى لا أفكر في تلك الجروح .... حين يخبرك احد أنك مريض بمرض غير معروف .... يشتط ذهنك وتتعب روحك سريعا ولكن لو قدم لك ضيفا حينها .... قد يضايقك قدومه .... ولكن في الحقيقة هو نعمة .... لأنه يوقف تفكيرك في ذلك الهمّ .... ويشغلك عنه ..

بدأت إحداهن تكمل مابقي من صحون .... والأخرى بدأت تسألني عن مكان الشاي .... فبدأت انا وهي نعدّه سويّا ..

تنبّهت الصغرى منهنّ للخدوش التي في يدي في الساعد .... أمسكت بساعدي وقد اتسعت عيناها وهي تُشير لتلك الخدوش : بسم الله وش ذا ؟! ..

كانت بي رغبة وقتها في البكاء .... والصراخ .... تمنيت أن أصرخ بكل صوتي وأقول .... أنا خاااااائفة ..
تمنيت الارتماء في حضنها والبكاء .... أريد الأمااان .... كنت أشعر بالخووف .... الخوف يقتل ويدمر .. لكن للأسف لم أفه بشيء من هذا .... ولا صراخ .... ولا بكاء .... لملمت خوفي داخلي من شدة الخوف .... نعم الخوف من الخوف .... سكتت ثوان لا أدري ما أقول .... هل أقول حكاية الفأر ؟! .... سيقولون تهيؤات .... أو مريضة .... خصوصا بعد حكاية تلك المراة التي تأن ؟! .... تغيرت نظرتهم لي وبدأوا يرقون في تعاملهم معي وكانهم يتعاملون مع شخص مريض ..

أخبرتهم أني صحوت ووجدت يدي هكذا لا أدري مالسبب ؟! .... سكتت الاثنتان وإن بدت علامات الاستغراب جلية عليهنّ .... لا أدري فيما يفكرّنّ .... لا أدري لما جاءني الظنّ انهنّ يشكّان بي ؟! .... فحسمت أمري وأخبرتهما بذاك الحلم الذي رأيته وذاك الفأر الذي خمشني بأظافره ..

نظرت لي الكبيرة نظرة طبيب نفسي لمريض عنده وهي تقول : يمكن أنت مخشت نفسك وانت نايمة ؟! .... ضحكت في سري وودت لو أبكي .... هي تشكّ بي فعلا .... لم أشأ أن أذكّرها أني لا يمكن أن أفعل هذا لأنه لا أظافر لي تطول لأني كنت أقضمها بفمي للأسف في تلك الأيام .... كنت أفعل هذا كثيرا بسبب الحال الذي كنت فيه .... هذا عدا أن منظر الخطوط لا يقول البتة أنه مخشٌ لإنسيّ .... إلا لو كان مركب دبابيس على أظافره ..

أمسكت الأصغر (وهي الأعقل) بساعدي تتامل شكل الخدوش .... أشارت نافية بأصابعها : لا هذا مو مخش أظافر بني آدم ، هذا مخش فار فعلا ، تصدقي شكله من جد فار اللي مخشك ، وأنت تحسبيه حلم .... ثم ابتسمت ربما لتدخل الاطمئنان قلبي : روحي ياشيخة حطي لك مرهم لا تتشوه يداتك .. ابتسمت وسرت على مقولة طنّش تعش .... أنهينا الشاي وذهبنا لشربه معا عند أخواتي اللاتي كنّ يلعبن في الغرفة .... ومرّ الوقت لطيفا وأنا احاول أداري نفسي وأتناسى هذه الخدوش التي تشوه يدي .... فهم لم يروا تلك الخدوش الأخرى في العضد ..

في الليل حين بدأت أفرش الفرش لي ولإخوتي .... أخذت أمرر عيناي على المكان الذي أنام فيه .... كنتُ أختار دوما النوم في طرف الغرفة تحت النافذة .... أخذت أتحسس السجاد لعلي ألقى آثار تُعطي دلالة لوجود فأر هنا .... باءت محاولاتي بالفشل .... لا يوجد أي أثر يدل على وجود فأر ..

تمددت على فراشي .... وأنا أنظر للجهة اليمين .... حيث الخدوش التي في يدي .... أتخيّل الفأر بجانب فراشي .... يمدّ أظاافره الدقيقة ويمخشني ببطئ ..

ارتفع حاجبي والتحليل يأخذ بي كل مأخذ .... أقلّب الأمر في ذهني .... لو فعلا هو فأر .... فنعم يستطيع مخش الساعد .... ولكن كيف خمشني في العضد ؟! .... كيف رفع طرف الكم .... لابد أن يرفع الكم كثيرا ليصل لتلك المنطقة ليخدشني .... لا أدري .... ربما كان الكم واسعا جدا وكان العضد ظاهرا للفأر بسهولة ؟!! .... ثم لم يحدث شيء من قبل مثل هذا أبدا لم نكن نرى الفأر هناك في ذاك الشقّ ..

لم يكن بي رغبة في النوم بعد ذاك النوم الطويل في المساء .. أخذت أعيد التفكير في الحلم .... شعرت هناك شيء خطأ في الخلم .... شيءٌ في الصورة خطأ ؟! .... لكن ماهو ؟!! .... شيءٌ في الفأر ؟! .... في اليد ؟! .... آآآآه .. تنبهت الآن كان في الحلم الفأر يخمش يدي اليسار ؟! .... لكن كل الخدوش في الحقيقة كانت في اليمين ؟!!!! .... وكانت اليسار سليمة تماما ..

.

.

.

.

ضيفٌ غريب ظهر واختفى
صديقتي في المدرسة
ولنا لقاء جديد بإذن الله في الحلقة القادمة