مرحباً بك زائرنا الكريم .. لك حرية الإستفادة والنشر




    رحلتــــــي مع الجاثــــــوم (9)

     02-03-2009 10:12 PM
    حلقـــ(9)ـة

    انْهِيَار دَاخِل أَسْوَارِ المَدْرَسَة



    حيّاكم .. والهمّ جفَاكُم .. والسّعد علاكُم .. والأمن دفَاكم .. والإيمان عَمَر حناياكم .. والخوف فَرّ وانزوى في عِداكُم .. والجاثوم لا رأتهُ عيْناكم .. ولا في رُءاكم .. دام الآي والذّكْر نِداكم وسلْوَاكم .

    في تلك الفترة بدأ يأخذ هذا الجاثوم مظهرًا أكثرَ بروزًا .. وأَشدّ التصَاقًا .. وأكثر تحكّمًا .. وتمكّنًا .. وتوغّلاَ .. واستولى على مساحة كبيرة منّي .. لم يعد يكتفي بساعات نومي .. ولا بسواد ليلي .. فطمع فيما بقي من يومي .

    تعدّى مرحلة المنام .. وعالم الأحلام .. إلى دنيا الصحيان .. وخَالطني وسط الأنام .. كما مرّ في معكم في سابقِ الكلام .. إلى حدّ طبع الآثار على جسمي .. حتى لا أنساه .. وطوال اليوم أراه .. فلا يتعدّ الفِكر سِواه .
    وتظلّ عيناي الخائفة .. تتقلب بين صَفحَات كتبي .. وسطُور دفاتري .. وتلك الخدوش الأربعة الغريبة .. والتي كنتُ أخفيها خلف كمّ مريول المدرسة الطويل .

    صحيح أن الأمر ازداد سوءً .. والجاثوم ازداد ظهورًا .. وبدأ يُزاحمُ ساعات يومي .. وزادَ السرحان والشرود .. ولكن الفارق الان عن تلك العطلة .. هو وجود أناس حولي .. قريبين منّي .. أراهم كل يوم .. يتفقدوني .. ويراقبون المتغيرات معي .

    إلى تلك الأيام .. لم أكن قد وصلت لمرحلة الجرأة لبث الشكوى لمن حولي .. شكٌّ أنّ هناك من يؤذيني متعمدًا .. ولكنه غير موجود ! .. قد أستطيع أن ادّعي أن فلانة تضربني .. أو فلانة تقطع دفاتري .. أو ظهري يؤلمني .. أو أشعر بحنين لأمي .. كل هذا ممكن .. ولكن من غير الممكن أن تشكو من شيءٍ لا تراه .. ولا تملك دليلا أنّك مسراه .. ومأواه .

    كل ما عندك مجرد أحلام .. وصراخ .. وسواد .. وليل .. وثقل كالجبل .. ومع هذا لا يسمع أحد تلك الأصوات سواك .. ولا يرى تلك الأحلام إلا إياك .. ولا يشعر بالثقل الجالس بجوارك .. فكيف يصدقونك ؟!! .

    صحيح كان أول من علم بهذا الأمر الغريب هم جيراننا .. بسبب تواجدهم المستمر والسريع وسهولة وصولهم وقت الحدث .. ولكن كان الأمر عندهم محصورًا في خوفي من بيتنا .. وبعض أحلامٍ مفزعة .. وتلك الخدوش التي مرت وانتهت في مخيلتهم في نفْس اليوم الذي علموا فيه .. وظنّوا أنها انتهت عندي مثلهم .. ودورهم انتهى على هذا ولم يزد .. وآل أمري عندهم أني أتخيّل .. كل ما أنا فيه تخيّلات .. توهّمات .. بسبب الحالة النفسية التي أصابتني بعد وفاة أمي في سن حرجة ( 14 سنة ) ..

    بعد ظهور تلك الخطوط الحمراء النّاريّة .. وحادثة عوّاش بن هبيشة الّلاعقليّة .. بدأتُ أفكّر بالأمر بشكل جدّي .. وبدأتُ أشعر بالخطر .. وخُصوصا مع الإحساس بأنّ هناك شيء يمشي خلفي ويلازمني .
    صرتُ أتلفتُ خلفي وخصوصا إذا صرتُ وحيدة .. ودوما أرقب أي ظلّ على الجدار ينقل صورة أحد يختفي خلف ظهري .. جنونٌ كاد يتلفني بسبب هذا الشيء ..

    بتّ لا أطيق أن أبقى وحيدة في أي مكان .. ولو أن يؤانسني حيوان .. الخوف من المجهول مدمّر وقاتل .. لهذا وصف الله الشياطين محذّرًا بني آدم ( يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأعراف : 27]

    الشياطين أحبابهم العصاة .. وأصدقاء قُساة القلوب الجُفاء .. ممن لا يرطُب لسانهم بذكر الله .. ولا بنور كلام الله .. ( أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الزمر : 22]

    وكما امتُحنّا بإبليس .. وبِطرُقهِ للغوايةِ نَقِيس .. فقد هدانا الله لطريق دحره .. ودفعه .. واجتثاثه من سويداء الروح .. لتهنأ بصدر مشروح .. وقلبٍ يُغرّد ويبوح ( الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد : 28]

    صرت أفكر بالأمر ليلا ونهارًا .. والخوف يدفعني سُفُولا وانحِدارا .. هذا الجاثوم تعدّى أمرهُ .. وعلا شانه .. وسيطر عليّ سيطرة الغزاءة الغاصبين .
    حتى أحسسته معي المدرسة .. بل في داخل الفصل .. وانقطع بيني وبين صويحباتي الوصل ..
    أسرّح .. وأشرد بعيدا عن الحصة .

    كانت المعلمة تشرح وصوتها يأتي من بعيييييييد .. كأن بيني وبينها أميال .. بل وحتى صورتها بدأت تختلط ملامحها وألوانها .. ذهني بعيد بعيد عما تقول .. أفكر بتلك المخالب .. وبالفئران .. وبذاك الثّقل .. وباللسان الذي يُربط .. وبالبيت .. وبأخواتي .. والخوف أن يكون مابي بهم .. ومافيّ فيهم .

    لم يعد يُفلح كوني بعيدة عن المنزل .. ولا كوني بين صُويحباتي .. أو في مدرستي الكبيرة .. لم يُفلح كل هذا أن أنسى .. استطاع أن يستعمر عقلي في كل وقت .. وفي كل مكان .. بدأت أحب الانفراد والوحدة في المدرسة .. وإن كنتُ آنس برؤية هذه الجموع الإنسيّة .. ولكني أكره البقاء قريبا منهم .. وأكره شيء عندي هو الجمعات الكبيرة .. صارت توترني .. بخلاف الأمس التي كانت مصدر الفرح والسعادة والثقة والنجاح .

    صار من عادتي الملازمة لي .. أن لا أنزل للفسحة إلا ومعي كتاب أنفرد به .. متحججة أني سأقلب أوراق درس ما .. أو تحضير مادة ما .. وإلا فالسبب أني أريد الابتعاد عنهم وعن جمعهم الكبير .. فقط أريد الابتعاد .. لم أعد أطيق أن انحشر بينهم .

    وَحَشَة في القلب من القريبات مني في المدرسة .. أفرغتها في الانفراد عنهم .. وفي الغالب تنفرد معي زميلتي التي أخبرتكم عنها سابقا .. ولا أدري لما كنت تاتي وتجلس معي ؟! .. رغم أني لم أدعها .. ورغم اني في الغالب ألتزم الصمت طوال فترة الجلوس .. وعيني على كتابي .. أتشاغل به .

    ربما تفعل هذا بسبب الصداقة القديمة التي بيننا .. ومعرفتها بي جيدا .. جعلها تدرك أني لست طبيعية .. وأني أخفي شيئا .. أو أني بحاجة لها .. وربما غير ذلك .. لا أدري .. ولكنها كانت تلازمني وهي صامتة وكأنها تنتظر فقط .

    في ذاك الأسبوع .. الذي سبقه ذاكَ الخميس .. وتلك الجروح الحمراء الملتهبة .. الذي أخذ التفكير فيه طوال الوقت .. في البيت .. أو في المدرسة .. وحتى وأنا على سفرة الغداء .

    صرت أنسى الإنس والأُنس .. وأغيب عن عالم الواقع .. وأغرق في عالم النسيان .. والأحلام .. والخيال .. والوهم .. تلك الأحلام .. ودوامة الأوهام .. لزمتني دُون الأَنَام .. يَقِظَة أو في المنَام .. أتعبت نفسي بلا طائل .. وأنهكتُ روحي دون حائل .. والدواء قريب .. والشفاء عاجل .. ربي رحيم .. يمنع ليُعطي .. ويحرم ليجود .. ويبتلي ليُنعم .. ولكن العباد عما خُلقوا له غافلون .. ولنعمِهِ جاحدون .

    يوم الأحد
    في ذاك اليوم .. أظنّه كان يوم أحد .. والخميس قبله كان حادثة الخدوش الأربعة .. تلك الخدوش أكملت طريقها .. لتحفر خدوشا أخرى في قلبي .
    صحيح انها كانت تختفي خلف كمّ مريول المدرسة الأصفر .. ولكنها لا تختفي عن بالي .. وكنت أحرص أن لا أرفع الكمّ لأي سبب .. حتى لا يراه أحد .

    إخفاء المرض .. وتخزين الأسرار في الصدور .. والخوف من النّاس من شيء لا يد لك فيه .. كمن هو مصاب بلوثة .. أو عيب .. أو فضيحة .. أو بنت يُدارى لسترها .. لا أدري ما أسميها .. نجحت أن أخفي الأمر فترة لا بأس بها .. ولكني تأثرتُ كثيرا بعد تلك الخدوش الأربعة لأني أراها بعينيّ .. صحيح أنها بدأت تندمل .. وإن بقت الحُمرة تكسوها وبعض سواد .. ولكنها أثّرت عليّ كثيرًا .

    انفردتُ في الفسحة في ساحة المدرسة الكبيرة التي تتوسط مبنى المدرسة الكبير ..
    قبعت في أحد زوايا الساحة ومعي هذه الصديقة الصدوقة .
    كانت تجلس بجانبي تلك الرفيقة العزيزة الأمينة ..
    أقلب في الكتاب معي وأفطر ..
    وهي تفطر بجانبي .

    في ذاك الحين .. كان الأمر يتقلّب في صدري كمثل الحطبِ على النّار .. وصورة ذاك الفأر يخمش ساعدي .. ثم صورة الثقل .. والحبال .. ولساني الثقيل .. تداخلت سطور الكتاب ماعدت أرى شيء .. وصدري بدأ يشعر بكتمة غريبة .. وضيقة صدر .. وألم .. ووحشة .. وزميلتي كانت تقضم سندوشتها بهدوء كعادتها .. وبوجهٍ خالٍ من التعابير .

    شعرت بثقل شديد وهذا السر حبيسا داخل صدري حينها .. كصخرة جاثمة على الصدر .. ستقلتني وهي تزيد ثقلا مطّردا في هذا الوقت .. تحسست يدي حيث تلك الخدوش .. ثمّ نظرت لزميلتي .. كانت سارحة .. شاردة .. تقلّب أنظارها في الساحة الكبيرة .. وتمدّ بصرها نحو شلتنا الكبيرة التي تتوسط السّاحة .. مسكينة .. ربما كانت تتمنى أن تكون معهم .. ولكن حرمت نفسها من أجلي ! .

    لم أشعر بلساني .. إلا ويهتف بصوت ضعيف مرتجف .. ودون أن أفكّر ..
    هتفتُ بصوتٍ هامس : حنان .

    توقفت عن قضم طرف السندوشت .. وهي تنظر لي بدهشة .. ونظرة حذرة .. لا أعلم سببها في ذاك الوقت .. نظرت لي ولم ترد .. تنتظرني أكمل حديثي .

    تلعثمت وسكتّ .. لم أعد أطيق أن أكتم الخبر في صدري .. صار ثقيلا .. ثقيلا كجبل .. وكلما سكتت ازداد ثقله .. سأموت من هذا الصمت .. ولكني لم أعرف ماذا أقول .. هذه الضيقة في صدري جعلت الحروف تنحشر في طرق الزور بشكل مزعج .. تودّ لو تستطيع تنفّس بشيء من هواء .

    أرخت يدها في حضنها وبيدها السندوشت .. نظرت لي بصوت هادئ .. وبهمس مرتفع قليلا : إش فيه ؟! .. إش بك ؟! .. " .

    لا أدري كيف بكييييييييت حينها ؟!!!! .. انهياااااار مفاجئ غيرررر متوقع .. بكاء مكتوووم من صدر مكظوووم .. لم أعد أرى شيئا حولي .. انهرت .

    كنت أتمنى أن أظل متماسكة ولا أنهار .. كان الكلام على طرف لساني .. لكن لساني خاااانني .. وعيناني خدعتني .. وبالدموع سبقتني .. انكشفت وسط ساحة المدرسة .. ووسط البنات .. وفي وقت الذرووووة .

    فزعتْ وارتعبتْ مع بكائي الغير متوقع وعلى حين فجأة .. أحنيتُ رأسي في حضني وغطيتهُ بأصابعي .. أحسستُ بيديها النحيلتين تمتد وترفع حصلا خلف أذني .. وهي تُمسك بجانبي رأسي .. وتقرب فمها من أذني .. وتنبهني أني وسط الساحة .. وأن البعض ينظر ويرى .. تسللت يدها داخل حضني .. انتبهت انها تضع في يدي منديلا .. بدأت أمسح وجهي ورأسي منخفض .. لا أود أن يراني أحد في هذا الوضع المزري ..

    لم أشعر إلا وجسم صاحبتي يقف .. ويداها تسحبني لأقف .. ضاع معالم كل شيء حولي .. واختلطت الساحة .. بالجدران .. بالأصوات .. بالأجسام .. كل شيء تداخل في عيني .. لم أعد أميز شيء من شيء .. لم أعد أرى شيئا .. كل الصور تداخلت في بعضها .. تمنيت فقط أن أختفي عن العيون .

    كنت طفل صغير ابن سنتين .. استجبت لها ولسحب يديها .. مشيت معها حيث تقودني تلك اليدين المضطربة .. كانتْ تسحبني بسرعة وقوة .. لا أدري إلى أين .. صعدت درجات الساحة القليلة إلى جهة الإدارة .. كاد قلبي ان يقف وهي تسحبني جهة غرفة المديرة !! .. لكنها لم تقف .. أكملت الطريق .. ونزلت درجا أخرى .. سحبتني لحوشٍ خلفيّ .. منطقة فيها طوب وتراب وشجيرات صغيرة ( مدرستنا كبيرة .. فيها ثلاث ساحات كبيرة .. كل ساحة منها تكفي لجميع المدرسة .. هذا عدا حوش خلفي فيه المقصف .. وحوش آخر فيه المسجد .. وحوش آخر فيه تراب وطين وخراب .. سحبتني لهذه المنطقة الأخيرة التي يندر وجود أحد فيها ) .

    أحسنت التصرف حين أبعدتني عن الناس .. لم يكن الوضع يتحمّل انهيارًا في وسط المدرسة .. جلسنا على شيء ما لا أدري ماهو كراسي الرخام .. أم بلك .. أم على التراب .. كانت الصورة مختلطة عندي .. وعيناي مغيّمة تعكّر الرؤية .. والنفسية في انحدار .

    كلماتها تسللت تهدأني لأسكت .. وتكرر عليّ أني في المدرسة .. وتكرر أني وسط الفسحة الآن .. وكانت تتعوذ من الشيطان .. وتقرأ آيات أو أذكار .. لا أدري ماذا كانت تقول .. شعرت بالأمان وقتها .. ويديها النحيلة تحتضن يدي الاثنتين .. وهي تقرأ آيات من وكلمات ليّنة .

    حزنتني حين انقطعت توسلاتها لتبكي هي الأخرى .. دون أن تعلم علّتي !!! .. بكاها أضحكني وسط حزني .. لا تستغرب هذه المشاعر منها .. فبيننا صداقة تمتد لست سنوات .. من رابع ابتدائي .. ونحن مع بعضنا .. في نفس الفصل .. الكرسي قرب الكرسي .. إلى ان تخرجنا سويا .. ونحن معا .

    كانت لها مكانة في قلبي كبيرة .. وشيء من إجلال .. وحب حقيقي .. ليس فقط بسبب هذه الصداقة .. ولا بسبب أخلاقها الرفيعة .. ولكني كنت أُكبر فيها أهلها .. منذ ان عرفت وانا في الابتدائية أن من أهلها وأخوانها من قُتل في أفغانستان - تقبلهم الله في الشهداء - .. وقد نزلت مني منزلا كبيرا .. كانت من بيت طيّب .. وأسرة - وإن كانت فقيرة - لكن عفيفة عن الحرام .. وعزيزة نفس ..

    في الساحة الخلفية .. حيث لم يكن أحد هناك في ذاك الوقت .. كان الوقت قبيل انتهاء الفسحة بقرابة العشر دقايق .. بدأ الحديث الغير متّزن .. تتناثر حروفه من بين فكّيّ .. وهي تُحاول أن تلتقط ماتفهم به المعضلة .. توقف الحديث في فمها .. وضاعت حروفها .. حين كشفت لها كم القميص .. لترى تلك الخطوط الأربعة الملتهبة .. وزدت في رفع الكمّ لترى باقيه .. فغرت فاها .. وانخرس لسانها عن الحديث .. ويدها توقفت دُون الوصول لتلمس تلك الخدوش الحمراء .

    بدأت تستعيذ من الشيطان .. وتستغفر الله .. وهي تردد على مسامعي " اقري قرآن .. أقري آية الكرسي .. شوفي أنا كل يوم مايمر إلا وأقرا جزء كامل .. أحفظي قرآن .. عشان تقدري تقري في أي وقت وفي أي مكان .. شوفي أنا حافظة 15 جزء .. أخويا الصغير في الابتدائية حافظ 8 أجزاء .. أحفظي قران " .

    كررت عليّ كثيرا " آية الكرسي .. آية الكرسي ما يقربك شيطان .. مايقدر .. لا تنامي بدون ماتقري قرآن .. أنتِ مو حافظتها ؟! .. " .. صُدمتْ حين هززتُ رأسي نفيًا ! .. هتفت بتعجب " في أحد ماهو حافظ آية الكرسي ؟! .. ما تاخذ منك دقايق في حفظها .. همّا سطرين .. " .. صمتت ثم سألت : والأذكار اللي بعد الصلاة ؟! لا تقولي !! " .. هززتُ رأسي نفيا أيضا ؟! .

    كان الوقت يزاحمنا .. وصلصة الجرس يملأ الأجواء معلنًا انتهاء الفسحة .. أخذت تذكر لي سريعا .. بكليمات مبتورة .. كيف أن الله يحفظ العبد بعمله الصالح .. وبقراءة القرآن .. وكم من حدث مر عليهم .. كان من الممكن أن يحترق بيتهم مرة .. ومرة كان من الممكن أن يحصل كيت وكيت .. ولكن كل شيء يتسبب له سببه الظاهر ويحميهم الله .. كانوا متعودين كل يوم بعد المغرب .. تجمعهم أمهم .. وكل واحد يقرأ جزءه .. ويسمّع حفظه !!! ..

    توقف حديثنا وصلصلة جرس انتهاء الفسحة يتوقف .. كنتُ أهدئ حالا .. وآمن بالا .. سحبتني مرة أخرى وتبعتها .. عدنا لمكاننا الذي تركناه في الساحة الوسطى .. كانت الساحة شبه خالية .. وجدنا زميلتنا - التي من الأشراف - تقف في عينِ المكان .. تنتظر .. حيث متاعنا المتروك .. وهي تقلّب أنظارها هنا وهناك .. حالما اقتربنا .. ارتاحت أنظارها .. وكفّت عن القلق .

    شعرت أنها تختلس نظرات لوجهي .. وإن وجّهتْ حديثها لزميلتي : خير إش فيكم ؟َ! فين كنتم ؟! " .. ابتسمت تلك متهرّبة .. وسحبتُ كتابي .. ولم أنطق بحرف .. وصعدنا ثلاثتنا الدرج .. وهو خالٍٍ .. بعد أن صعد الجميع .

    دخلت الفصل .. والعيون تلاحقني .. نظرات مختلسة .. وكلمات تتناثر من هنا وهناك .. " كيف حالك ؟! .. خير فيك شيء ؟! .. وجهك إشبه أحمر ؟! .. " .. فهمتُ أن الانهيار الذي حصل في الساحة .. قد رآه الكثير .. وتناقله الباقون ..

    وبدأ الكلام يتوجه لزميلتي التي تُشير لهم بالصمت .. وفعلا صمت الجميع .. مع دخول المعلمة التي بعد ان سلمت على الجميع .. نظرت لي باستغراب .. ويبدو أن وجهي فضحني .. إذ قالت بلهجتها المصرية : انت بتعيطي !! .. يوووووه بدري عليكو الهم .. انتو لسا شفتوا حاجة مـ الدنيا عشان تعيطوا !!!! .. دنتو حتعيطوا وحتعيطوا .. دي الدنيا فيها بلاوي ربنا مايوركهاش " .

    ارتسمت الابتسامة على الجميع .. وكنت منهم .. ضحكت على كلماتها .. واختلط ضحكت بخطين من الدموع سالا .. مشاعري مختلطة جدا وقتها .. ضحك .. وبكاء .. وفضيحة .. وانهيار .. وفيما هي تستعد لتلتفت لتكتب على السبورة رأتني .. همست بحنان : مالك فيه إيه .. " ولم تنتظر مني ردًا .. إذ بدأت تكتب عنوان الدرس ..

    الحمد لله انزاح شيء ثقييييييييييل عن صدري .. بعد أن بثثت همي عند زميلتي .. وإن كان بشبهِ فضيحة .. انزاح نصف الثقل من صدري .. إحساسي أن الهم الذي في صدري يشاركني فيه شخص آخر .. ويفهمني .. ويقدر خوفي .. ورعبي .. خفف من الهمّ كثيرا .. وخصوصا أنها أهل للثقة .. وكتومة لسرّي .. وقد نفعتني كثيرا بتلك الكلمات التي بثتها في أذني .. وصدرتْ من قلب ناصح مؤمن .. هي أمينة لسري .. أعلم هذا .. وأيقن انها لن تبوح لأي كائن كان بما أخبرتها به .. مالم يكن في الأمر مصلحة لي .

    كالعادة عدتُ للبيت .. ولا أذكر هل تغديت .. ولا نمت دون غدا .. صحوت قبيل المغرب .. وشربتُ الشاي كعادتي .. واطمئننتُ على أحوال أخواتي وهنّ حولي .. قد افترشن دفاترهن .. وكلا تغيظ الأخرى بخطها الجميل .

    لمحت المصحف بقرب طاولة التلفاز ..
    سحبته وجلست في زاوية قريبا من صغاري ودفاترهن ..

    تذكرت زميلتي .. شعرتُ بامتنانٍ شديد لها ..
    بقي في ذهني نصيحتها بآية الكرسي .. وأنها سهلة الحفظ .

    أمسكت بالقرآن .. نظرت لجلدته .. غريبٌ عنّي .. بدأت أقّلب في سورة البقرة .. أبحث عن آية الكرسي .. أعرف أنها في سورة البقرة .. تلخبطت حينها هل آية الكرسي ؟! .. هذه ( اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة : 255] .. أم هذه ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة : 256] .. فحفظتُ الآيتين ولم أعرف أيهما هي آية الكرسي !!!!!! .. كان حفظها صعبا جدا عليّ .. وعجبت من هذا .. فقد كنت أحفظ سريعا .. المهم حفظتها حفظا ركيكًا تتداخل كلماته ..

    حدّقت النظر في القرآن .. وكلمات زميلتي ترنّ في أذني .. وأنهم يقرؤون القرآن كل يوم .. وتذكرت كلامها حول حفظ الله للعبد الذي يقرأ القرآن .. شعرتُ ببونٍ شاسع بيني وبينها .. أخذ مني العجب أنّ حفظ هاته الآيتين أتعباني .. وفوقه كان حفظًا ركيكًا .. وتلك الأخت تحفظ 15 جزءً .. بالطبع حينها لم أكن ادرك معنى جزء .. ولا مقدار 15 منه .. ولكن تذكرت أنّها قالت نصف القرآن .

    أمسكت بيدي أوراق المصحف .. وبتقدير بالعين المجردة .. قسمته نصفين متماثلين .. ونظرت لأحد النّصفين .. أتخيل هذا المكتوب كله .. قد حواه صدرها عن ظهر غيب .. ياللبون الشاسع بيني وبينها .. كما بين السماء والأرض .. ( أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا [الأنعام : 122]

    سبحان الله .. صحيح كنتُ متفوقة .. ولا ينزل مستواي عن الخمس الأوائل في المدرسة في الغالب .. وزميلتي هذه لم تكن يوما من العشر الأوائل على المدرسة .. وكنتُ أحيانا أشرح لها ماغاب عنها من فهم الرياضيات .. إلا أني شعرت بنفسي صغيرة أمامها .. صغيرة جدا بعد ذاك الحدث .. نعم مثلي أخذت التقدير .. والمديح .. والثناء .. والجوائر في الدنيا .. بينما تلك لا يدري عنها أحد أنها تحفظ نصف كتاب الله !! .. شتّان بين طلاّب الدنيا وطلاّب الآخرة !!! .

    بدأت تعود كلماتها تلك على أذني صافية مريحة .. ونور حروفها في قراءة القرآن يفعل مفعوله .. فتحت صفحة .. وبدأت أتعتع فيها .. قرأت سطرا .. ثم فتحتُ صفحة أخرى لأقرأ سطرًا آخر .. ثم أخرى .. قراءة ركيكة ضعيفة .. تنقل لك ضعف التعليم في هذه الناحية .
    قررتُ هذا اليوم أن أقرأ آية الكرسي عند النوم .. سأجرب .. ليس بيدي شيء آخر سوى أن أفعل ما أرشدتني له .. تمنيت أن ينتهي كل هذا بضغطة زر .. وبأصبع ساحر .. وينقشع عني هذا الحلم الأسود .. وأعود كما كنت وكأن شيئا لم يكن .

    طال بي السهر بسبب نومي المسائي .. وشرب ترمس شاي .. وبعد الساعة الواحدة ليلا .. ألقيت رأسي على الوسادة .. وتمددت على فراشي .. تذكرت حينها أني قد وعدت نفسي بقراءة آية الكرسي .. بدأت أحرك لساني بما حفظته .. طارت كل الآية !! .. حاولت تذكر شيء منها .. قرأت فقط كليمات .. ثم غفت عيني .. وغاب عنها النّور .

    جاء الجاثوم .. نعم جاء .. وزاد أمره هذه الليلة .. زاد جهده وثقله .. وتكرر يقظتي ونومي .. ثم يقظة .. ثم نوم .. كان قدومهُ سريعا .. أول ما غمضتْ عيناي .. أتاني راكضا بثقله .. وأصوات الأطفال عااالية .. لدرجة ظننتُ كل العماير حولنا تسمعها .. كانوا يصرخون ويبكون .. بدأت أشعر بالآم في الصدر .. وفي النَفَس .. وضيقا .. وشيء من انهيار يقترب .. ويعلن أجراسه من بعيد .. ثقلٌ .. وصراخ .. وبكاء .. وضحك .. وحبال تُوثّق .. لسانٌ ثقييييييييل .. وأطرافٌ متجمّدة .. ينتهي في الأخير بصرخاتي كالعادة .. وهكذا أهلكني طوال الليل .

    أتذكر في تلك الفترة صار شيء غريب .. في إحدى تلك النوبات التي أتاني فيها الجاثوم .. وبعد صراع معه .. وثقلٍ .. وصراخ .. وعويل .. وخوف .. ورعب .. وبدأت بنطق الشهادة .. فُتح الربط .. وأفقتُ .. وكنت أضحك !! .

    نعم كنتُ أضحك !! .. ضحكٌ غريبٌ .. حتى أنه كان يخرج مني سائل غريب وأنا أضحك !!!! .. كان صدري يعلو ويهبط من شدة الخوف والرعب .. ولساني يضحك !! .. لم أكن أضحك برغبتي !! .. فهل يعقل أن إنسان مرعوب يجد في نفسه رغبة في الضحك ؟!! .

    والغريب أني لم أكن أضحك أول ما أفيق .. ليس ابتداء الضحكة بعد إفاقتي .. لا .. بل تكون خاتمة ضحكة لأحد غيري في حلم .. بينما كنتُ أصرخ وأبكي وأنطق بالشهادة .

    أتذكر اول مرة جاءتني هذه الحالة .. نزل الأمر على نفسيتي نزول الصاعقة .. لأني لما انزاح عني الثقل .. وبدأتُ أرتجف .. انتبهت أني أضحك .. كأني شخصين .. شخص حائف ومرعوب .. والآخر خبيث غير آبهٍ بي ويضحك فرحًا .. ضحك غريب .. كان أشبه بضحك تشفي ! .. ضحكٌ بصوت مكتوم .. أُوقفهُ حالما أنتبه له .. بكيت أول مرة صارت لي هذه الجادثة .. أبكاني أن أضحك وسط هذا الخوف والرعب .. أبكاني أن أضحك وأنا لا أريد هذا .. كان حقي البكاء فهو أليق وأنسب بالمقام !! .

    ومرّت الأيام مع هذا الجاثوم في صراع .. ولم انفرد بزميلتي تلك .. وإن حصل .. كانت تسألني .. فأقول لها كلمات سريعة .. أنه مازال في النوم تعب .. فتحثني على قراءة آية الكرسي .. ولكني لم أخبرها أني أنام دون أن أكملها !!

    مرّ الحال هكذا أسابيع ..
    إلى أن جدّ حدثٌ قُبيل امتحانات نصف السنة ..
    - يمكن كان قبل الامتحانات النصفية بأسبوعين أو ثلاثة - ..
    وحدثت أمور متسارعة ..
    جعلت الأحداث تتعاقب عليّ ..
    دون أن أحسبها ..
    وحصل مالم يكن في الحسبان ..
    .

    .

    .

    .

    .
    مازال بالحلقة بقيّة لعلها تكون في الغد
    ضيفٌ غريب ظهر واختفى
    وشابٌ أسود وناعم


             

     02-03-2009 10:13 PM
    تابع (9) ..

    ضَيْفٌ غَرِيبٌ
    يوم الاثنين
    الساعة 2:15 دقيقة ظهرًا
    أعلمتكم سابقا أن المطبخ في شقّ البيت الجديد ..
    وحتّى تصل إليه .. تجد أسيابا طويلة هناك ..
    تنتهي تلك الأسياب بباب المطبخ الذي يكون نهاية المطاف .
    عند وقوفك عند باب المطبخ .. تجد يسارك فتحة .. تنتهي هذه الفتحة بتلك الفسحة الصغيرة التي سمعتُ فيها صوت تلك المرأة التي تأن ..
    بينما تجد على يمينك باب المخزن الكبير الذي رأيت فيه ذاك الفأر يخمشني بأظافره .

    2:15 دقيقة ظهرًا .. في هذا الوقت كنا في المطبخ متحلقين حول السفرة .. المطبخ كبير .. وجانب منه مفرّش بالسجاد .. كان الكلّ موجودًا .. والدي وإخوتي الكبار والصغار ..

    وإذ بنا نسمع مواءً فجأة ..

    فوجئنا جميعا بظهور بس ( قط - هر ) .. ذكر .. كبير الحجم .. سمينًا .. لا أتذكر لونه تماما .. ولكنه لم يكن أسودًا بالكامل .. ربما رمادي به بعض سواد ..

    ألجمتنا المفاجأة .. إذ ظهر فجأة .. ساد المطبخ صمت وهدوء لثوانٍ .. سأل بعدها والدي عن هذا القط هل كان موجودا من قبل ؟! .. فلم يجبه أحد .. لأنه في الأصل لم يرهُ أحد .. ولم يلحظّه أحد قبل ذهابنا للغداء .. ظهر فجأة هكذا .

    وإنما كان الأمر غريبًا .. لأنه معروف أن آخر من يدخل المنزل في الظهر هو والدي .. ويقوم يقفل باب الدرج بالمفتاح .. بحيث لا يدخل أحد بعده إلا بدق الجرس .. وهنا كلنا نعلم من ياتي .. وهذا دلالة أن هذا القط موجود في البيت من قبل دخول والدي رحمه الله للمنزل .. ولكن لم يره أحد ؟! .. ولم يلحظ وجوده أحد ؟! .. دخل البيت !! .. وصعد الدرج !! .. وقطع الأسياب !! .. ولم يلحظه أحد !! .

    كان القط الرمادي السمين يموء .. ثم يتراجع للخلف .. ويدخل داخل الفسحة الصغيرة .. ويعود عند باب المطبخ ويموء .. ثمّ يبتعد لداخل الفسحة .. ثم يعود وهكذا .. ونحن نتفرج بصمت .

    أذكر ذاك اليوم كان غدانا من برا .. سمك مقلي .. قطع والدي قطعًا من السمك .. وقطع ورقة بجانبه .. ووضع السمك فيها .. ثم ناولني الورقة .. وأشار لي لأضعها للقط عند باب المطبخ .


    تحركت وفي داخلي امتعاض أخفيته .. لأني لا أحب قطط الشوارع .. فيهم توحش وأمراض .. أما قطط البيوت فلا مشكلة .. تقدمت لباب المطبخ ومعي قطع السمك .. وأنا أتفحص هذا القطّ بعينيّ .. كان قطا غريبا .. حدّقت في وجه القط .. كان هو أيضا يطالعني !! .. لا ادري أين الغرابة .. لأنه شيء طبيعي أن يطالعني .. لأني أتقدم نحوه بطعام سيطالعني بالطبع !! .. ماكنتُ سأهتم به البتة .. ولا حتى أذكره لكم .. لولا شيء مرتبط به سأذكره في حلقة متاخرة .. كان ينظر لي بتركيز .. كأنها نظرات عاقل .. أو فاهم .. ولكني لم أكترث به كثيرًا .. وأبعدت هذه الفكرة الحمقاء من ذهني .. هو مجرد قط .. ومبعث النفرة منه لأنه من الشارع !! .

    اقتربت منه .. فابتعد قليلا .. فرشت له الورقة بين باب المطبخ وفتحة الفسحة الصغيرة .. رجعت لداخل المطبخ وجلست معهم وأنا أنظر له .. اقترب وبدأ يأكل من السمك .. انشغلت بعدها بالأكل .. وذهبت بعدها للنوم كالعادة .

    نسيت هذا القط تماما .. كما نسيه الكل .. ولم يستقصي عنه أحد .. لأن الكلّ نسيه .. اختفى فجأة .. كما ظهر فجأة .. ولم ينتبه له أحد أصلا .. نسيناه تماما .. ولم يذكره أحد .. ومع هذا فهذا القط له دور كبير .. سيأتي لاحقا .
    نفس اليوم


    2:00 ليلا

    كالعادة سهرٌ بعد نومٍ مسائيٍ طويل .. أغمضتُ عيناني قريبًا من الساعة الثانية ليلا .. وكالعادة أيضا لم أكمل آية الكرسي .. إذ صرت أخلط بين كلماتها .. ومع هذا لا أعود لتثبيت الآية في ذهني .. كنتُ أقرر في الليل أني سأحفظها جيدا في الغد .. لكن في النهار أنسى تماما وأنشغل عن هذا .. ولم تكن بي همّة أو إرادة .

    ومن غبائي لم أفطن أن أضع المصحف بجواري .. في الليل الخوف يشلني عن الحركة .. فلا أقوم لآتي به وأضعه قرب وسادتي .. ولعلكم تنتبهون فلا تقعون في نفس أخطائي .. اجعل القرآن وحصن المسلم قرب وسادتك .. أو على كومدينة قرب سريرك .. واجعل قرآنا في صدرك وأذكارا تحفظها يجود بها لسانك عادة .

    هذه الليلة أتذكرها جيدًا .. لأنّ من رأيته فيها عاد لي بعد سنوات ..
    ولكن بصورة مختلفة .

    في هذا الوقت المتأخّر من الليل .. انسدحت على فراشي ..
    وبدأت أقرأ الآية .. وغافلني النوم كالعادة وسط حروفها .

    أغمضت عيناي .. وأغرقت في النوم .. نمتُ طويلا دون كدر .. لا أستطيع أقدر الوقت في حال النوم ..
    ولكن في تلك الليلة بتقدير ظنّي .. أظنّه تأخر حضوره .. ثم بدأَ حلمٌ غريب ..
    لأني شعرت بكل شيء فيه كأنه حقيقة .. وهذا طابع الأحلام المتأخرة على وجه العموم ..

    كان الحلم مختلفا كثيرًا .. لم أسمع صياح الأطفال .. ولا بكاؤهم .. ولا ضحكات .. ولكن رأيت نفسي وكأني حقيقة هذه أنا ..

    كنتُ في نفس الغرفة التي نمتُ فيها .. وكانت مظلمة .. وخالية .. لا يوجد بها أحد سواي .. ومع كونها مظلمة ولكني شعرت بها خالية .. كنت في منتصف الغرفة منسدحة على ظهري على سجاد الغرفة .. دون فراش .. وكنت أشعر باضطراب .. وخوف .. وبرد .. حاولت مدّ يديّ لأضمّ جسمي .. علّي أحصل على شيء من دفء .. وشيء من أمان .. إلا أنّ يدي لم تستجب .. كانت مرفوعة للأعلى ولا تتحرك .





    أحنيت رأسي قليلا للأسفل لأنظر لجسمي .. فزعت مما ألبس .. حاولتُ مدّ يديّ لأستر نفسي .. ولكنها كانت مرفوعة ولا تتحرك ( مثل شخص تهدده بمسدس فيرفع يديه نفس الصورة ولكن لشخص نائم على ظهره ويرفع يديه ) .

    استغربت من يدي المرفوعة بهذا الشكل .. رفعت رأسي للأعلى لأنظر ليديّ .. رأيت يدين أخريين تمسكان بيدي .. تتبعتُ تلك اليدين .. وانتبهت لجثة كبيرة تنام بنفس وضعي .. ولكن معاكسة لي .. انتبهت لشعر أسود كثيف يقابل شعر رأسي .. تخللت عيناي أكثر لجسم هذه الجثة .. رأيت صدرا مفتول العضلات .. عاريا .. أسودا .. وبالكاد أراه وسط الظلام من شدة سواده .. عادت عيناي بسرعة لرأس هذا الجسم لأنه تحرك والتفت لي .

    وجهٌ أسود كسوادِ الليلِ البهيم .. أسودٌ حالك .. وفوق سوادهِ كان يلمعُ بطريقةٍ غريبة .. كأنه مغسول بزيت .. وكانت بشرته ناعمة .. جدُّ ناعمة .. يخطر على بالك لو تزحلق عليها شيء لانزلق بسهولة .. كما لو كان على قالب زبدة من شدة نعومته .. كان وجها وسيما وجميلا لشاب في حدود الـ 28 إلى 32 سنة .

    عينان سوداوان كعيون الفنجال من شدة وسعها .. وخصلات من شعره الأسود الفاحم الناعم الغليظ تغطي جبهته .. وكان بها قطرات من ماء أو مبللة .. كان في الحقيقة جميلا جدا .. رغم سوادهِ الحالك .. ومع جماله .. إلا أني شعرت برعبٍ شديدٍ منه .. وخصوصا وهو ينظر لي بنظرات متفحصة .. وزاد في رعبي ضحكةٌ من شدقهِ المائل .

    ضحكةٌ غريبة .. كانتْ دون صوت .. لم أسمعْ صوتها البتة .. شكلُ ضحكته مع وجهه الأسود الوسيم أصدق وصف لها ما تسمع من عبارة مثل .. ضحكة شيطانية .. أو ضحكة إبليسية .. أو ضحكة خبيثة .. شريرة .. عابثة .. شخص خبيث !! .

    نعم مع وجهه الجميل إلا أنّ شعورًا داهمني .. أنّه خبيث .. بل خبيث جدا .. شعرت بعينيه كخطي ليزر يغوصان داخلي .. حاولت سحب يدي بسرعة من قبضته .. فزعتُ حين انعكس الأمر وبدأ يشدني ويسحبني للأعلى .


    كأني أشعر به يضحك تلك الضحكة الخبيثة .. صرخت حين شعرت باحتكاكي بسجاد الأرض .. شعرت برعب شديد وجسمي كله يتحرك للأعلى .. بدأتُ أصرخ وأصرخ وأصرخ .. وكفيّ تكاد تهلك تحت قبضة يديه القوية .. وفي نفس الوقت أشعر اني لا أتحرك من مكاني .. لا أدري كيف !! .

    بدأت أشعر بلفح هواء بارد .. وأظنني نطقت كلمة فيها استعاذة .. نطقتها فجأة .. أو دعوتُ الله أستعيذ به .. لا أذكر ماقلت .. ولكن أذكر أنها استعاذة .. أو اسغاثة بتعبير أصح ولكن بلفظ العوذ .. لا أدري كيف أُلهمت أن أستعيذ ..

    اختفى كل شيء فجأة .. كأن لم يكن شيء .. بسرعة كل شيء اختفى ولم ياتِ الثقل ولا الحِبال بعد الحلم كالعادة .. فتحتُ عيناي سريعا .. وجلست على فراشي ..

    وكنت أضحك ؟!!!!! .
    أو أكمل ضحكة ساخرة غريبة .

    كنت أضحك .. وأضحك .. وأضحك .. مع ألم في الصدر من الضحك الغريب .. وبعدها بكيت .. وبكيت .. وبكيت .. هذا الضحك يؤلمني .. تذكرت كلام زميلتي .. قرأت آية الكرسي .. اخطات .. وعكيت .. وأعدتها .. وعكيت .. وأعدتها .. وكررتها .. لا أدري كيف قرأتها .. ربما ألفت من عندي .

    صورة هذا الشاب الأسود محفورة في ذهني .. إلى حدّ غير معقول .. وإلى لحظة كتابة هذه السطور .. مازلت أستطيع وصفه .. ولو أُوتيت فنّ الرسم لرسمته .. هو هو بعينه .. مازلت أذكره .. أخذت أتنفس بعمق وأنا على فراشي .. والتقط هواء نقيّا يطرد شيئا مسموما في صدري .. ويُجلي الهمّ والخوف عنّي .. ثم ألقيت بنفسي بتعب وإنهاك على وسادتي .. كالعادة كأني مشيت مساااااااافات كثييييييييرة .. أغمضت عيناني .. ودخلت عالم المنام سريعاااا .. ولكنه لم يعد لي هذه الليلة !!!! .
    .

    .

    .

    .

    .
    غلطة جاثوم>>
    .. يتبع ..

             






شبكة تواصل العائلية 1428~1438 هـ