المزارات والآثار الإسلامية



اللجنة الدائمة


العلَّامة محمد بن إبراهيم


سُئلَت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية:
لي أخ يقوم بتزوير الحجاج والمعتمرين إذا قدموا إلينا في المدينة المنورة، على بعض المزارات، وبعضها غير شرعي كالمساجد السبعة، وبئر عثمان، وبئر الدود، وتربة الشفاء، ومسجد العريض، وبعض الأماكن الأخرى كمسجد القبلتين. ويأخذ مقابل ذلك أجرة مالية يشترطها قبل إركاب الحجاج معه، أو يتفق مع المسؤول عن حملة الحجاج في ذلك. فهل عمله ذلك جائز شرعا؟ وهل ما يأخذ من أجرة تجوز له؟ أفتونا عن ذلك مفصلا ولكم الأجر والمثوبة.
فأجابت:
هذا العمل الذي يقوم به أخوك -وهو الذهاب بالحجاج والمعتمرين إلى أماكن في المدينة لا تجوز زيارتُها كالمساجد السبعة وما ذُكِر معها-: هو عمل مُحرَم.
وما يَأخذ في مقابله مِن المال: كسبٌ حرام.
وعليك بمناصحته بترك هذا العمل.
فإنْ لم يمتثل؛ فأبلِغْ عنه هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ للأخذ على يده.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
بكر أبو زيد.. عبدالعزيز آل الشيخ.. صالح الفوزان.. عبدالله بن غديان.. عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
[فتاوى اللجنة الدائمة، المجموعة الثانية (10/ 390)، الفتوى رقم (17435)]
الرجوع للأعلى


وكتب مفتي الديار السعودية: العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله:

السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد وجهَتْ جريدةُ الندوة (في عددها الصادر 20 رمضان 1383هـ) استفتاءً إلى دار الإفتاءِ (بمناسبة تسليم دار الأرقم للرئاسة العامة لهيئات الأَمر بالمعروف) عن أَمرين:
أحدهما: هل هناك مانع من أَن تكتب عليها عبارة «دار الأَرقم بن أَبي الأَرقم»؛ تخليدًا لهذا الأَثر؟ وهل هناك مانع ديني من اتخاذها مكتبة أَو متحفًا أَو مدرسة ثم السماح للحجاج والزوار للبلاد المقدسة بزيارتها كدار ساهمت في نشر الدعوة الإسلامية في أَحلك الظروف التي مَرَّتْ بها.
السؤال الثاني: لماذا أُزيل أَثر مسجد البيعة من الحديبية (الشميسي)؟ وهل هناك مانع ديني مِن الاحتفاظ به كمأثر شهد بيعةً كان لها أَكبرُ الأَثَر في رفع راية الإسلام؟
هذا ما وجَّهَتْه جريدةُ الندوة، وتحته توقيع «طالب علم».
الجواب:
أَما اتخاذ «دار الأَرقم بن أَبي الأَرقم» مزارًا للوافدين إلى البيت الحرام يتبرَّكُون به (بأَي وسيلة كان ذلك، سواءٌ كانت إعلان كتابة دار الأَرقم عليها وفتحها للزيارة، أَو اتخاذها مكتبة أَو متحفًا أَو مدرسة): فهذا أَمرٌ لم يَسبق إليه الصحابةُ -الذين هم أَعلم بما حصل في هذه الدار من الدعوة إلى الإسلام والاستجابة لها-.
بل كانوا يعتبرونها دارًا للأَرقم له التصرف فيها شأْن غيرها من الدور، وكان الأَرقم نفسه يرى هذا الرأْي؛ حتى إنه تصدق بها على أَولاده، فكانوا يسكنون فيها ويؤَجِّرون ويأْخذون عليها، حتى انتقلت إلى أَبي جعفر المنصور، ثم سلمها المهديُّ للخيزران التي عُرِفَت بها، ثم صارت لغيرها.
يتبين هذا كله مما رواه ابن سعد في «الطبقات الكبرى»، عن شيخه محمد بن عمر، قال: أَخبرنا محمد بن عمران بن هند بن عبدالله بن عثمان بن الأَرقم بن أَبي الأَرقم المخزومي، قال: أَخبرني أَبِـي، عن يحيى بن عمران بن عثمان بن الأَرقم، قال: سمعت جدي عثمان بن الأَرقم يقول: أنا ابن سُبُعِ الاسلام؛ أسلم أَبي سابع سبعة، وكانت داره بمكة على باب الصفا وهي الدار التي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكون فيها في أَول الاسلام، فيها دعا الناس إلى الإسلام وأَسلم فيها قوم كثير، وقال: ليلة الاثنين فيها «اللَّهُمَّ أَعزَّ الإسلامَ بأَحبِ الرَّجُلَين إليكَ: عُمَرَ بنِ الخطَّابِ، أَوْ عَمْرو بنِ هِشَامٍ» فجاءَ عُمَر بن الخطاب من الغد بكرة فأَسلم في دار الأَرقم، وخرجوا منها فكبروا وطافوا بالبيت ظاهرين، ودُعيَت دار الأَرقم «دار الاسلام»، وتَصدَّق بها الأَرقم على ولدِه، فقرأتُ نسخةَ صدقةِ الأَرقم بداره: «بِسمِ الله الرحمن الرحيم. هذا ما قَضَى الأَرقم في ربعه ما جاز الصفا: أنها محرمة بمكانها مِن الحرم، لا تُباع ولا تُورَث، شهد هشام بن العاص، وفلان مولى هشام بن العاص. قال: فلم تزل هذه الدار صدقة [قائمةً]، فيها ولده يسكنون ويُؤَاجِرون ويَأخذون عليها، حتى كان زمن أَبي جعفر.
قال: محمد بن عمران فأخبَرني أَبِـي، عن يحي بن عمران بن عثمان بن الأَرقم، قال: إِني لأَعلم اليوم الذي وقعت في نفس أَبي جعفر؛ إنه ليَسعى بين الصفا والمروة في حجة حجها ونحن على ظهر الدار في فسطاط، فيَمُرُّ تحتنا لو أَشاءُ أَن آخذ قلنسوةً عليه لأخذتها، وإنه لينظر إلينا من حين يهبط بطن الوادي حتى يصعد إلى الصفا.
فلما خرج محمدُ بن عبدالله بن حسن بالمدينة؛ كان عبدالله بن عثمان بن الأَرقم ممن تابعه، ولم يخرج معه. فتعلق عليه أَبو جعفر بذلك، فكتب إلى عامله بالمدينة أَن يحبسه ويطرحه في حديد.
ثم بعث رجلًا من أَهل الكوفة يُقال له شهاب بن عبد رَبٍّ، وكتب معه إلى عامله بالمدينة أَن يفعل ما يأمره به. فدخل شهاب على عبدالله بن عثمان الحبس وهو شيخ كبير ابن بضع وثمانين سنة وقد ضجر بالحديد والحبس، فقال له هل لك أَن أُخلِّصَك مما أَنت فيه وتبيعني دار الأَرقم، فإن أَمير المؤمنين يريدها، وعسى أَن بعتَه إيَّاها أن أكلمه فيك فيعفو عنك، قال: إنها صدقة، ولكن حقي منها له ومَعي فيها شركاءُ: إخوتي وغيرهم. فقال: إنما عليك نفسك أعطنا حقك وبرِئْتَ.
فأشهد له بحقه وكتب عليه كتابَ شرًى على حسابِ سبعة عشر ألف دينار.
ثم تتبع إخوته ففتنتهم كثرة المال فباعوه، فصارت لأبي جعفر ولمن أقطعها.
ثم صيرها المهدي للخيزران -أمِّ مُوسى وهارون- فبنتها وعُرِفَت بها.
ثم صارت لجعفر بن موسى أَمير المؤمنين.
ثم سكنها أَصحاب الشطوي والعدني.
ثم اشترى عامتها أَو أَكثرها غسان بن عباد من ولد موسى بن جعفر.
قال: وأما دار الأَرقم بالمدينة في بني زريق: فقطيعة من النبي -صلى الله عليه وسلم-.
هكذا رواه ابن سعد في «الطبقات».
ورواه الحاكم في «المستدرك» من طريق شيخ ابن سعد محمد بن عُمَر وسكت عنه.
ومن طريق الحاكم: ذكرَ الزيلعي في «نصب الراية» في كتاب الوقف، والحافظُ ابن حجر في «الدراية» قطعةً منه، وكذلك في «الإصابة». إلا أَنه قال: في «الدراية»: وهلال مولى هشام. بدل وفلان مولى هشام.
وذكر جملةً منه ابنُ جرير الطبري في كتابه «ذيل المذيل، من تاريخ الصحابة والتابعين» من طريق محمد بن عمر بسنده المذكور.
فمِن هذه الرواية تَبيَّن أَن كون دار الأَرقم دارَ إسلام: لم يمنع الأَرقمَ التصرُّف فيها هو ولا مُلاكها بعدُ، كما يتصرف في غيرها من الدور، ولم يتخذها مُتبرَّكًا يَتبرك به الوافدون إلى بيت الله الحرام، بل كانوا يسكنون فيها ويؤاجرون ويأخذون عليها.
وأول من اتخذ منها مزارًا: الخيزران، حينما اتخذت القسم الذي يُذكر أَنه مختبَأُ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- في دار الأَرقم بن أَبي الأرقم مسجدًا.
وهذا المسجد هو الذي ذكره الأزرقي في «تاريخ مكة» وتبعه مَنْ بعدَه.
وذكر الفاسي في «شفاء الغرام» والنووي في «الإيضاح» وصاحب «الجامع اللطيف» أَنه المقصود بالزيارة مِن دار الأَرقم.
وعبارة الفاسي: المقصود بالزيارة منها أَي من دار الأَرقم: هو المسجد الذي فيها، وهو مشهور من المساجد التي ذكرها الأَزرقي، وذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان مختبِئًا فيه -أَي في الموضع الذي اتخذ مسجدًا- وفيه أَسلم عمر رضي الله عنه.
ويصف لنا الفاسي في «شفاء الغرام» مشاهدته ذلك المسجد حين يقول: «وطول هذا المسجد ثمانية أذرع إلا قيراطين، وعَرضُه سبعة أَذرع وثلث -الجميع بذراع الحديد-. حُرِّرَ ذلك بحضوري، وفيه مكتوب:
﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ. رِجَالٌ﴾. هذه مختبىء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دار الخيزران، وفيه مبتدأُ الإسلام، أَمرَتْ بتجديده الفقيرة إلى اللهِ: مولاةُ أَمير الملك مفلح، سنة "ست...". وذهب بقية التاريخ.
قال الفاسي: وعَمَره أَيضًا الوزير الجواد، وعمرته مجاورة، يُقال لها "مرة العصماء".
وعُمِر أَيضًا في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، والذي أَمر بهذه العمارة لا أَعرفه، والمتولي بصرف النفقة فيها علاءُ الدين علي بن ناصر محمد بن الصارم المعروف بالقائد». اهـ كلامُ الفاسي.
وعلى كُلٍّ: فعمَلُ الخيزران ليس بحجة، وإنَّما الحجة في عمل الصحابة رضي الله عنهم، وقد قال شيخ الاسلام ابن تيمية في تفسير «سورة الاخلاص»: إِن الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يَبنُوا قَطُّ على قبر نَبيٍّ ولا رجل صالح ولا جعلوه مشهدًا أَو مزارًا ولا على شيء من آثار الأَنبياءِ مثل مكان نزل فيه أَو صلى فيه أَو فعل فيه شيئًا من ذلك. انتهى[1].
وتكلم شيخ الاسلام ابن تيمية في «اقتضاء الصراط المستقيم» على المزارات التي بمكة غير المشاعر -مساجدَ وغيرَها- فقال ضمن كلامه على ذلك [ص425]:
ما بنى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة غيرَ المسجد الحرام، بل المساجد كلها محدثة -مسجدُ المولد وغيره-، ولا شَرَع لأُمَّتِه زيارةَ موضعِ المولد، ولا زيارة موضعِ العقبة الذي خلف منى -وقد بُنِي هناك مسجدٌ-...
واحتج بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتمر أَربع عمر، وحج معه في حجة الوداع جماهير المسلمين لم يتخلف عن الحج معه إلا من شاءَ الله، وهو في ذلك كله لم يأت هو ولا أَحد من أَصحابه غارَ حِراء، ولا شيئًا من البقاع التي حول مكة، ولم يكن هناك إلا بالمسجد الحرام وبين الصفا والمروة ومنى ومزدلفة وعرفات، وصَلَّى الظُّهرَ والعصر ببطن عُرَنة، وضربت له القبة يوم عرفة بنَمِرة المجاورة لعرفة، وحج بعده خلفاؤه الراشدون فمَشوا على تلك الطريقة -ما ساروا إلى حراء ونحوه لصلاة فيه-.
وقال في «ص429»: «قد ذكر طائفة من المصنفين استحباب زيارة مساجد مكة وما حولها، وكنت كتبتها في منسك كتبته قبل أَن أَحج في أَول عمري لبعض الشيوخ، جمعتُه من كلام العلماء. ثم تبين لي أَن هذا كله من البدع المحدثة التي لا أَصل لها في الشريعة، وأن السابقين الأَولين من المهاجرين والأَنصار لم يفعلوا شيئًا من ذلك، وأن أئمة العلم والهدى يَنهون عن ذلك.
وأن المسجد الحرام هو المسجد الذي شُرِع لنا قصدُه للصلاة والدعاء والطواف وغير ذلك من العبادات، ولم يُشرَعْ لنا قصْدُ مسجدٍ بعينه بمكة سواه، ولا يصلح أَن يُجعَل هناك مسجد يزاحمه في شيء من الأَحكام.
وما يفعله الرجل في مسجد من تلك المساجد -من دعاءٍ وصلاة وغير ذلك- إذا فعله في المسجد الحرام كان خيرًا له، بل هذا سنة مشروعة، وأما قصدٍ مسجد غيره هناك تحرِّيًا لفضله فبدعة غير مشروعة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في «منسكه»: أما زيارة المساجد التي بُنِيت بمكة غير المسجد الحرام -كالمسجد الذي تحت الصفا، وما في سفح أَبي قُبيس، ونحو ذلك من المساجد التي بُنيت على آثار النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كمسجد المولد وغيره: فليس قَصدُ شيءٍ من ذلك من السنة، ولا استحبَّه أَحدٌ مِن الأَئمة -وإنما المشروع إتيانُ المسجد الحرام خاصة، والمشاعرِ عرفة ومزدلفة والصفا والمروة-.
وكذلك قصد الجبال والبقاع التي حول مكة غيرَ المشاعر عرفة ومزدلفة ومنى، مثل جبل حراء، والجبل الذي عند منى الذي يقال أنه كان فيه قبة الفداء.. ونحو ذلك؛ فإنه ليس مِن سُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زيارة شيء من ذلك بل هو بدعة[2].
وقال في «تفسير سورة الاخلاص»: النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لم يُصَلِّ بسجد بمكة إلا المسجد الحرام، ولم يأت للعبادات إلا المشاعر منى ومزدلفة وعرفة.
ولهذا كان أئمة العلماء على: أَنه لا يستحب أَن يقصد مسجدًا بمكة لصلاة غيرَ المسجدِ الحرام، ولا تقصد بقعةٌ لزيارةٍ غير المشاعر التي قصدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-...
إلى أَن قال: وكل مسجد بمكة وما حولها غير المسجد الحرام فهو محدث. اهـ[3].
ويضاف إلى هذا: ما ذكر الشاطبي في «الاعتصام» في تتبع الآثار قال:
خَرَّجَ الطحاوي وابن وضاح وغيرهما: عن معرور بن سويد الأسدي قال: وافيتُ الموسم مع أَمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما انصرفنا إلى المدينة انصرفتُ معه، فلما صلى لنا صلاة الغداة فقرأَ فيها: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ﴾ و﴿لإِيلافِ قُرَيْشٍ﴾ ثم رأَى ناسًا يذهبون مذهبًا، فقال: أَين يذهب هؤلاء؟ قال: يأتون مسجدًا هاهنا صلى فيه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-. فقال: إنما أهلك مَن كان قبلكم أنهم يتبعون آثار أنبيائهم فاتخَذوها كنائِس وبِيَعًا. مَن أدركته الصلاة في شيء مِن هذه المساجد التي صَلَّى فيها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فلْيُصَلِّ، وإلا فلا يتعمدها.
ثم قال الشاطبي: قال ابن وضاح: كان مالك بن أَنس وغيرُه مِن علماءِ المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبي -صلى الله عليه وسلم- ما عدا قبا وحده.
قال: وسمعتُهم يذكرون أَن سفيان دخل مسجد بيت المقدس فصلى فيه ولم يتبع تلك الآثار ولا الصلاة فيها، وكذلك فعل غيرُه ممن يُقتدَى به.
وقَدِم وكيعٌ مسجد بيت المقدس فلم يَعْدُ فعل سفيان.
قال ابنُ وضاح: وقد كان مالك يكره كل بدعة وإن كانت في خير.
وجميع هذا ذريعةٌ لأنْ يُتَّخَذ سنةً ما ليس سنةً أَو يُعَدُّ مَشرُوعًا ما ليس مشروعًا. [اهـ].
وهذا كله على تسليم كون الدار المعروفة اليوم بـ«دار الأَرقم»: هي دار الأَرقم في الواقع.
وفي النفس من ذلك شيء لأَمرين:
أَحدهما: أَن موقع دار الأَرقم حسب ما تقدم في رواية ابن سعد على باب الصفا، وفي تلك الرواية قول يحيى بن عمران بن عثمان بن الأَرقم: «إني لأَعلم اليوم الذي وقعت -أَي دار الأَرقم- في نَفْس أَبي جعفر؛ إنه لَيسعى بين الصفا والمروة في حَجةٍ حَجَّها ونحن على ظهر الدار في فسطاط، فيمُرُّ تحتنا لو أَشاءُ أَن آخذ قلنسوة عليه لَأَخذتُها، وإنه لَيَنظُر إلينا مِن حين يهبط بطن الوادي حتى يصعد إلى الصفا».
وهذا غير موقع الدار المعروفة اليوم بذلك الاسم. وما في رواية ابن سعد المذكورة موافق لما في «تاريخ مكة» للأَزرقي و«مستدرك الحاكم»: أنها عند الصفا، ولما في «أَسد الغابة» لابن الأَثير أَنها في أَصلِ الصفا.
الثاني: ما ذكره ابن كثير في تاريخه «البداية والنهاية» في حوادث سنة 173هـ، في ترجمة الخيزران، قال: «قد اشترتْ الدارَ المشهورة فيها بمكة المعروفة بدار الخيزران، فزادتها في المسجد الحرام».
فإنَّ هذا -وإن كان بعيدًا ومخالفًا لرواية ابن سعد المتقدمة ولم يذكره الأَزرقي وغيره فإنه-؛ مما يُشَكِّكُ في اشتهار الدار الموجودة اليوم باسم «دار الأَرقم» في زمن ابن كثير؛ إذ لو كان الأَمرُ كذلك لما خَفِي عليه[4].
وأَما قول السائل: «لماذا أُزيل أَثر مسجد البيعة من الحديبية (الشميسي)؟ وهل هناك مانع ديني يمنع من الاحتفاظ به كمأْثر شهد بيعةً كان لها أَكبر الأَثر في رفع راية الإسلام؟».
فالجواب: أَنه أُزيل لأَنه ليس مسجد الشجرة الذي يعنيه السائل بمسجد البيعة؛ فإن مسجد الشجرة غير معروف هو والحديبية مِن مدة قرون بشهادة مؤرخي مكة والمدينة.
قال الفاسي في «شفاءِ الغرام» في كلامه على مسجد الشجرة وعلى المسجد الآخر الذي بَناه يقطين بن موسى في الشق الأَيسر:
«هذان المسجدان والحديبية لا يعرفون اليوم، والله أَعلم.
وقال: في موضع آخر ما نصه: هي -أي الحديبية- والأعشاش لا يُعرَفان اليوم.
وذكر في محل آخر القولَ بأنَّ مَوضع الحديبية هو الذي فيه البير المعروفة بـ«بير شميسي» بطريق جدة، وتعقبه بقوله: «الشجرة والحديبية لا يُعرفان الآن. وليست الحديبية بالموضع الذي يُقال له الحديبية في طريق جدة؛ لقرب هذا الموضع من جدة وبعده عن مكة، والحديبية دونه بكثير إلى مكة.
وقال الزين المراغي في «تحقيق النصرة بمعالم دار الهجرة» في كلامه على مسجد الحديبية: لا يُعرَف اليوم، بل يقال إن مكة ليس فيها أَحد يعرف الحديبية بعينها وإنما يعرفون الجهة لا غير.
وقال السمهودي في «وفاءِ الوفا بأخبار دار المصطفَى»: هو -أي مسجد الحديبية-: غير معروف، بل قال: المطري لم أَرَ في أَرض مكة مَن يعرف اليوم الحديبية إلا الناحية لا غير [اهـ].
وإذا كان هذا مآل مسجد الشجرة والحديبية في أَعصُر أُولئك؛ فكيف باليوم؟!
وأَما موقف السلف مِن ذلك المسجد المسمى بـ«مسجد الشجرة» -أيامَ كان هو والحديبية معروفين-: فهو أَنَّهم لا يرون رأي السائل وهو أَنه شهد بيعة الرضوان.
وممن قام ببيان ذلك من السلف: سعيد بن المسيب؛ فقد روى الشيخان البخاري ومسلم في «صحيحيهما»: عن طارق بن عبدالرحمن، قال انطلقتُ حاجًّا، فمَررْتُ بقوم يُصلُّون، فقلت ما هذا المسجد؟ قالوا هذه الشجرة حيث بايَعَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بيعة الرضوان. فأَتيتُ سعيد بن المسيب فأخبَرتُه. فقال سعيد: حدَّثَني أَبي أنه كان فيمن بايع رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- تحت الشجرة قال فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها، فقال سعيد: إن أصحاب محمدٍ لم يَعلَمُوها، وعَلِمتُموها أنتُم! فأنتم أَعلم؟!
وروى ابنُ جرير الطبري في «تفسيره» عن سعيد بن المسيب قال: كان جَدِّي يُقالُ له «حزن»، وكان ممن بايع تحت الشجرة، يقول: فأتيناها مِن قابِل فعميت علينا.
وكان ابنُ عُمَر يذكر أن تعمية شجرة البيعة رحمةٌ مِن الله؛ روى البخاري في «صحيحه» في «باب البيعة في الحرب على ألا يَفرُّوا» من كتاب الجهاد عن نافع، قال: قال ابنُ عُمَر -رضي الله عنهما-: رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها؛ كانتْ رحمةً مِن الله.
قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»: الحكمة في إخفائها هي أَن لا يحصل بها افتتانٌ؛ لِمَا وقع تحتها مِن الخير؛ فلو بَقيَت لَمَا أُمِن تعظيم الـجُهُّال لها، حتى ربما أفضَى بهم إلى اعتقاد أَن لها قوة نفع وضر -كما نراه الآن مشاهدًا فيما دونها-. قال: وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله: «كانت رحمةً مِن الله»، أَي كان خفاؤها عليهم بعد ذلك رحمةً مِن الله تعالى [اهـ].
هذا ما صار إليه شأن شجرة البيعة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ثم صار في خلافة عُمَر بن الخطاب ما ذكره شيخُ الاسلام ابنُ تيمية في «اقتضاء الصراط المستقيم» ص306: وهو توهم مَن تَوَهَّم في شجرةٍ بالحديبية أنها هي الشجرة التي بايع الصحابةُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- تحتَها[5]، فكان مَن تَوَهَّم ذلك ينتابها ويُصلِّي عندها؛ فأمر عُمَرُ بن الخطَّاب بِقَطعها فقُطِعَتْ.
وهذا الذي ذكره شيخ الاسلام ابن تيمية: رواه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» قال: حدثنا عبدالوهاب بن عطاء، قال: أخبرنا عبدالله بن عون، عن نافع قال: كان الناس يأتون الشجرة التي يُقال لها «شجرة الرضوان» فيُصلُّون عندها، قال: فبلغ ذلك عُمَرَ بن الخطاب فأوعدهم فيها وأَمر بها فقُطعَت.
وصحح الحافظ في «الفتح» إسناد هذه الرواية. واعتمدَها صاحبُ «عيون الأَثر». وعزاها السيوطي في «الدر المنثور» إلى «مصنف ابن أبي شيبة».
قال: ابن وضاح في كتاب «البدع والنهي عنها»: سمعتُ عيسى بن يونس -مفتي طرسوس- يقول: أَمَرَ عُمَرُ بن الخطاب بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فقطعها؛ لأَن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها فخاف عليهم الفتنة.
قال عيسى ابن يونس وهو عندنا من حديث ابنِ عون عن نافع: أن الناس كانوا يأتون الشجرة فقطعها عمر.
قال ابن وضاح: فعليكم بالاتِّباع لِأَئمة الهدى المعروفين؛ فقد قال بعضُ مَن مَضى: «كَمْ مِن أَمْرٍ هو اليوم معروف عند كثير من الناس: كان منكرًا عند مَن مضى، ومتحبِّب إلى الله بما يُبغضه، ومُتقرِّب إليه بما يُبعده منه. وكل بدعة عليها زينة وبهجة» اهـ.
وهذا ما لزم بيانه.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(ص-ف-2023 في 29-10-1382هـ).
[فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم (1/ 151-162، مطابع الحكومة) والحواشي منه]



[1] جـ17 ص466 «مجموع فتاوي ابن تيمية».

[2] جـ26 ص144 «مجموع فتاوي ابن تيمية».

[3] جـ7 ص477 «مجموع فتاوي ابن تيمية».

[4] قلتُ: وعلى فرْضِ أنها هي الدار المعروفة؛ فقد هُدِمَتْ وجُعِلَتْ ضمن الساحة موقفًا للسيارات وطريقًا للمشاة، وكَفَى اللهُ شرَّ التعلُّقِ بها. فله الحمد.

[5] بيعة الرضو