الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وقاية للأمم من الهلاك




الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقاية للأمة من الهلاك وحفظ لها من الضياع، فإذا أهملت الأمة هذه الشعيرة العظيمة، انتشرت المنكرات، وفشت المعاصي والجرائم، وراجت سوق الفساد والفسوق، وتغلب أهل الباطل، وأصبحت لهم الدولة والظهور، فأخذوا يشيعون الفساد، ويأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ويميتون السنن، ويحيون البدع، وينقضون الدين عروة عروة، حتى يسلخوا الأمة عن دينها جملة، ويجردوها من كل فضيلة وخلق كريم، وإن كانوا قد يزعمون أنهم مصلحون ناصحون، ولكنهم كما قال الله عنهم: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾! فقال الله: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة، 11-12].
قال ابنُ عقيل الحنبلي[1]: «لو سكت المحِقُّون ونطق المبطلون؛ لتعود النشء ما شاهدوا، وأنكروا ما لم يشاهدوا[2]، فمتى رام المتدين إحياء سنة، أنكرها الناس وظنوها بدعة، وقد رأينا ذلك، فالقائم بها يُعَدُّ مُبتدِعًا ومبدعًا».
وروى أبو بكر الخلال[3] عن الإمام أحمد أنه قال: «يأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه بينهم مثل الجيفة، ويكون المنافق يشار إليه بالأصابع»! فقيل له: وكيف يشار إلى المنافق بالأصابع؟! فقال: «صَيَّروا أمر الله فضولا[4]!.. المؤمِن إذا رأى أمْرًا بالمعروف أو نهيا عن المنكر لم يصبر حتى يأمر وينهى -يعني قالوا: هذا فضول. قال:- والمنافق كل شيء يراه قال بيده على فمه[5]، فقالوا: نعم الرجل، ليس بينه وبين الفضول عمل».
وذكر ابن النحاس عن حذيفة -رضي الله عنه- كلامًا نحو كلام الإمام أحمد، ثم قال: «ووالله إن هذا لهو الزمان الذي ذكره حذيفة؛ لأن من تصدى في هذا الزمان للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ثقل على القلوب وإن كان خفيفًا، وسمج في العيون وإن كان لطيفًا، ورمي بالكذب، وساءت فيه الظنون، وقُصِد بالأذى؛ فكثر أعداؤه وقَلَّ أصدقاؤه، ورُمِي وأُلقِي في مهاوي الردى، وأعملت الفكر في كيفية الخلاص منه، والراحة من مشاهدته، بل في قتله واستئصال شأفَتِه»[6].
هذا هو كلام ابن النحاس عن زمانه! فكيف به لو رأى هذا الزمان؟!
ومع ذلك فلا محيد لأهل الإسلام عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ حتى لا تصاب الأمة بالهلاك، ويلحق الديار الخراب.
ويؤكد هذا المعنى قول الله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ [الأنفال: 25].
فهذا تحذير من الله تعالى للذين يسكتون عن إنكار المنكر، ويُقِرُّونه بين أظهرهم: أن يعمهم العذاب مع الظالمين، وإن لم يشاركوهم في فعل المنكر.
قال القرطبي: «قال علماؤنا: فالفتنة إذا عُمِلَت؛ هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصي، وانتشار المنكر، وعدم التغيير»[7].
وقال الشنقيطي: «والتحقيق في معناها: أن المراد بتلك الفتنة التي تعم الظالم وغيره: هي أن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه؛ عَمَّهُم اللهُ بالعذاب: صالحهم وطالحهم. وبه فسرها جماعةٌ مِن أهل العلم، والأحاديث الصحيحة شاهدة لذلك»[8].
قال ابن العربي: «والسكوت على المنكر تتعجل عقوبته في الدنيا بنقص الأموال والأنفس والثمرات، وركوب الذل من الظلمة للخلق»[9].
فليتق هؤلاء الذين تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهؤلاء الذين يحاربون الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر صواعق السماء، ونذر العذاب -أعاذنا الله وإياكم من ذلك-.


[1] كما في غذاء الألباب للسفاريني 1/ 213.

[2] قال ابن النحاس في تنبيه الغافلين ص76: «قد تقوم رؤية المنكرات مقام ارتكابها في سلب القلب نور التمييز والإنكار، لأن المنكرات إذا كثر على القلب ورودها، وتكرر في العين شهودها، ذهبت عظمتها من القلوب شيئًا فشيئًا، إلى أن يراها الإنسان فلا تخطر بباله أنها منكرات، ولا يميز بفكره أنها معاصي؛ لما أحدث تكرارها من تألف القلب لها».

[3] في «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» ص47-48.

[4] مِن فضول القَول واشتغالِ المرء بما لا يعنيه -كما في «القاموس» و«المعجم الوسيط»-.

[5] يعني لم يتكلم بشيء.


[6] تنبيه الغافلين ص78.

[7] الجامع لأحكام القرآن (7/ 392).

[8] أضواء البيان 2/ 171.

[9] عارضة الأحوذي شرح جامع الترمذي 5/ 31.