لماذا يُكثرُ أهلُ الرّسِ من أكلِ الحبحر؟



-1-

ياهلَ الحزِم يا نِعم الذِخيرة ... إِن لِفاكم من البَاشا علامِ
أدعوا الله ولاتدعونِ غِيره ... واعرفوا مامِن المِيتَه سَلامِ
الفَرنجي إلى قُمنا نِكيله ... تِلفظه مِثلِ سِيقانْ النعامِ
مَا نقلنا السيوف اللّي شِطيره ... كُود للكون في وقتَ الزحامِ

(موضي الدهلاوي)

كانََ الأميرُ عبدالله الدهلاوي يطوفُ ببيوتِ ودروبِ الرسّ، وقد شغلَ بالهُ أمرُ تحصينِها، و تقادمُ سورِها الذي بناهُ هدّيب بن عويص من قبله. كانَ يرى ضرورةَ تعزيزِ التحصيناتِ، وَ خصوصاً بعدَ أن اكتوت مدنُ القصيمِ و قراها بالحروبِ الطاحنة التي جرت بين ابن سعود و طوسون الذي أرسله والدهُ لغزو نجد والقضاء على عبدِالله بن سعود في معقلهِ الحصين بالدرعية.

بعدَ أن فرغَ الأمير عبدالله الدهلاوي من جولتهِ المسائية رجعَ إلى دارِه مرهقاً و نام. في مناِمه، رأى شيخاً كبيراً طاعناً في السنِ، يقتربُ نحوَهُ متكئاً على عصىً غليظةٍ أحكمَ إمساكَها. هتفَ الشيخُ العجوز:

"أخبرني، كيف تريدُ حمايةَ الرسِّ يا عبدالله؟"

"سوفَ أبني سوراً جديداً حولَها لأزيدَ من تحصينِها!"

"لا يكفي يا عبدالله. خذ الشور من راعي العلم و الشور. لقد هاجرتُ من الرسِّ في زمنِ القحطِ وَ الجوع، وَ سكنتُ غريباًً في دارٍ قومٍ ضايقوني و أسقوني ضروبَ المهانةِ وَ الذل. كانوا يسرقون حلالي، وَ يضيّقونَ عليّ، و يؤذونَ زوجتي، دونَ خطأٍ أجنيه، أو ذنبٍ ارتكبُه. عندما رزقني الله بولدٍ، كنتُ أرجو أن يكونَ لي سنداً يكفيني غيَّ صغيرِهم وَ تجبرَ كبيرِهم، و لكنهم استمروا على غيهم. عندما رزقني الله بولدٍ ثانٍ، ارتدعَ أكثرُهم ولكن الشِرارَ منهم لم يرتدعوا. عندما رزقني اللهُ بثالثٍ، كفّوا كما يكفُ الذئبُ عندما ينبحُ في وجههِ كلبٌ أهوج. ثلاثة يا عبدالله. إذا أردتَ بناءَ السورِ فعليكَ بثلاثة. لا تنسى كلامي يا عبدالله."

تقولُ الأسطورةُ أن الأميرَ عبدالله الدهلاوي بمجردِ أن استيقظَ من النومِ، ذهبَ إلى رجالاتِ الرسِ وأخبرهم عن عزمهِ بناءَ سورٍ عظيمٍ يتكونُ من ثلاثِ جدرانٍ حولَ الرس. تحمّسَ الرجالُ لفكرةِ أميرِهم، وَ سرعانَ ما بُنيت الجدرانُ الثلاثةُ من لَبنِ الطينِ المخلوط بالتبن، ومُلئت المسافات التي تفصلُ بينَ الجدرانِ بطبقاتٍ وأكوامٍ من الرمل. استقدم الأميرُ عبدالله رجلاً من البكيرية يُدعى فريح، عُرفَ بمهارتهِ في البناءِ والتحصين، فأقامَ مع أهلِ الرسِّ مرقبهم الشهير الذي يرتفعُ أربعينَ متراً نحوَ السماء.

كانَ أهلُ نجدٍ والقرى المجاورة يتندرونَ بالتحصيناتِ المبالغ بها، وَ التي اتخذها أهلُ الرسِ دونَ سببٍ ظاهر. و لكن سرعانَ ما عمَّ الطوفان، وزحفَ إبراهيم باشا في نفسِ السنة بجيشٍ لم يعهد أهلُ نجدٍ لقاءَ مثله. كانَ الجيشُ مكوناً من أربعةِ آلافِ راجلٍ، وألفٍ ومئتين فارس، ومدججاً بالمدافعِ والقَبَسِ والقنبر. أخذت قرى نجد تتساقطُ أمامَ هذا الجيشِ اللجبِ، حتى عمَّ الرعبُ، وَ كثرتْ الأراملُ، وَ كسا السوادُ كلَ بيت.

هبَّ الإمام عبدالله بن سعود للقاء جيوش ابراهيم باشا في الحناكية، ولكنه هُزم هناك، ولجأ هارباً إلى عنيزة، بعدَ أن أرسلَ حاميةً خاصة إلى الرسّ، بقيادةِ حسن بن مزروع وَ الهزّاني. سرعانَ ما زحفَ إبراهيم باشا وحاصرَ الرسّ، مطالباً أهلها بتسليمِ الحامية، وفتح أبواب المدينة أمامَه، دونَ قيدٍ أو شرط.

تحصّن رجالُ الرسِ داخلَ سورِ مدينتهم، و انهالت عليهم قذائفُ المدافعِ مصحوبةً بالقبس، وَ كأنها مطرٌ مشتعل، ناهبةً سورَهم وَبيوتهم وَ أرواحَهم، و لكنّ رجالَ الرسِّ صمدوا كما صمد سورُهم، وتحلّقوا حولَ أميرهم منصور بن عسّاف الذي جُرحَ أثناء دفاعه عن المدينة، ليستلمَ أمورَ الحربِ من بعده قاضي الرس الشيخ قرناس بن عبدالرحمن، الذي خلعَ ثوبَ وعمامةَ القضاء، ليتسربلَ بلأمةِ وَ ثيابِ الحرب.

مضت الليالي والأيام، وأهلُ الرسِ لا يستسلمون ولا تهبط هممُهم، وكلما انهارَ جزءٌ من السورِ في النهار، بادروا إلى بنائه في الليل، و كلما سقط عليهم قبسٌ من السماءِ، أسرعوا باطفائه والاستفادةِ من ملحِه في تحضير المفرقعاتِ والبارود.

كانوا يتطلعون نحوَ الأفقِ وراءَ سورِهم، أملاً أن يرسلَ الإمام عبدالله بن سعود لهم مدداً، أو أن يبادرَ إخوانهم في المدنِ الأخرى من القصيم إلى نجدتِهم. و لكن الأيام مضتْ، والأفقُ بقيَ خالياً إلاّ من جنودِ وعساكرِ إبراهيم باشا المعسكرة في الجهةِ الجنوبيةِ وَ الشرقيةِ منَ السور. وَ عندما طالت المدة، توقفوا عن التطلّع إلى الأفق، وانصرفتْ أنظارهم إلى سورِهم وقائدهم الشيخ قرناس، إذْ عرفوا أن خلاصهم مرهونٌ بصمودهم، وأنَّ الفرجَ الحقيقي لن يأتيَ إلاَ من داخلِ السور.




-2-

الآنَ عرفتُ أيَّ فكرةٍ مؤرقةٍ
كانت تعجّلُ من خطوِه
وَ لماذا كانَ ينظرُ نحوَ النهارِ
بمثلِ هذه النظرةِ الحزينة
الرجلُ قد قتلَ المرأةَ التي أحبَها
وَ لذا عليهِ أن يموت.

(أوسكار وايلد)

عندما انتهى الشيخ قرناس من صلاة الفجر، انصرفَ إلى بيتهِ الواقعِ في الجهة الشرقية من السور. كانَ الجوُ صافياً، هادئاً، تستطيعُ أن تسمعَ فيهِ تغريدَ الحمائم و غناءَ العصافير. لم يكن الشيخُ قرناس غريراً ليطمئنَ لهذا الوضع، ففي أي لحظةٍ كانَ يتوقعُ أن يقطعَ صفاءَ الجوِ دويُّ المدافعِ وَ نارُ القبسِ المتساقطةِ من السماء. صاحَ الشيخ قرناس عندما أشرفَ على دارِه:

"هل جهزتي الحليب يا رقيّة؟"

ظهرت زوجةُ الشيخ قرناس وَ هي تحملُ سطلين ملأتهما بالحليب الساخنِ الذي لم يغادرْ ضرعَ الناقةِ إلا للتوّ. كانت فقاقيعُ الحليبِ تتجمعُ لتلتحم، ثمَّ تهاجرُ إلى حافة السطلِ لتختفي و تنفجر هناك. ناولتْ رقية الشيخَ قرناس سطلاً من الحليب، بينما عهِدت بالآخر لصبيٍ يافعٍ من صغار الحيّ.

"عافاكِ الله."

"وَ عافاك، سطلٌ لعبدالكريم وَ سطلٌ لبقيةِ الرجال."

نظرَ الشيخُ قرناسُ باستغرابٍ نحوَ رقية، ثمَّ انفجرَ ضاحكاً بأعلى صوته.

"من أخبركِ بأمرِ عبدالكريم؟"

"محمد وَ بقية الصبية. يقولونَ أنه يُفرغُ الحليبَ في معدتِهِ، وَ كأنه يملأُ قليباً خاوية. لم يصفرّ لون ناقتِنا، و لمَ يدركْها الإمحال، إلا بعدَ مجيئهِ مع الحامية."

"اتقِ الله يا امرأة! لم تصفّر الناقة، و لم تهلك الماشية، إلا بسبب الحصارِ الذي يضربهُ الأتراكُ على سورِنا، وَ الذي منعنا من أن نرعى و أن نسرحَ بالحلالِ وَ الغنم ."

ابتسمتْ رقية ابتسامةً متألمة، اعتادتْ أن تستحضرَها كلما ذُكِرَ أمرُ الحصار.

"هل صحيحٌ ما يُروى عن الرجل؟"

"أيّ رجل؟"

"عبدالكريم الدكسي."

"وَ ما الذي سمعتيه عنه؟"

"يقولونَ أنهُ فرَّ من قبيلتِه بعدَ أن قتلَ زوجتَه!"

"ما أكثرَ ما يتقولُ الناسُ من الباطل!"

"وَ لكن إن لم تكن القصةُ صحيحةً، لماذا لا يعرفُ أحدٌ أصلاً لهذا الرجل؟"

"لكلِ رجلٍ سرٌ يخفيه، وَ الله أعلمُ بما تضمرُ القلوب. سوفَ أذهبُ الآن، هل توصيني أيَّ شئ؟"

"حفظكَ الله. انتبه لنفسِك."

حملَ الشيخُ قرناس سطل الحليب، و انطلقَ بصحبةِ الصبيّ الصغير إلى مقرِ الحامية خلفَ المسجد. منذُ أن انتهى شهرُ رمضان، وَ الشيخُ قرناس يحملُ الحليبَ الساخنَ كل يومٍ بعدَ صلاة الفجر، كي يُسقيَ وَ ليتعهدَ بالبرِّ هؤلاء الرجال الغرباء الذين شاركوا أهل الرس دفاعهم المستميت عن مدينتهم. كانت لكلِ رجلٍ من أولئك الرجال قصةٌ يرويها، عن أمٍ تركَها خلفَه، أو عيالٍ ينتظرونَ رجوعه، ما عدا ذاك الرجل الأسمر الطويل، الذي يُدعى بين أصحابِه بالدكسي.

رغمَّ أنهُ كانَ أكثرَ أصحابهِ صمتاً وَ اجتناباً للناس، إلا أنه جذبَ انتباهَ الشيخَ قرناس منذ أولِ يومٍ لوصول الحامية إلى الرسّ. ما زال الشيخُ قرناس يتذكرُ قامته الفارعة فوقَ حصانه، حينَ دخلَ خلفَ حسن بن مزروع -قائد الحامية- في أولِ يومٍ لهم في الرسّ. حاولَ الشيخُ قرناس أكثر من مرةٍ أن يتجاذبَ أطراف الحديث معه، وَ لكن الرجلَ كان كالصخرةِ المُصمتة، قد يُجيبُ بكلمةٍ أو كلمتين، ليرجعَ إلى سكوته الغامض، وَ إلى تعهدِ بندقيتهِ الطويلة، تلك البندقية التي أردتْ برصاصِها أكبرَ عددٍ من الجندِ الأتراك.

عندما شارفَ الشيخُ قرناس مقرّ الحامية، استقبله الهزّاني وَ استلم منه سطلَ الحليب.

"السلام عليكم."

"وَ عليكم السلام و رحمة الله يا شيخ قرناس. ما هذا كله؟ كلّفنا عليكم يا شيخ."

"حقٌ وَ واجب. أحضرتُ معي سطلاً آخرَ أيضاً" قال الشيخ، وَ هو يلتفتُ ناحيةَ الصبيِ الذي كانَ يتعثرُ بالسطلِ الذي ثَقلَ عليهِ حملهُ بعدَ قطعهِ كل هذه المسافة.

"كيفَ هوَ الوضعُ على الجانب الآخر من السور؟"

"لا أدري! مدافع الأتراك لا زالت تدوّي بينَ وقتٍ و آخر، إلاّ أنَّ الحركةَ كأنها خفّت وسطَ معسكرهم."

"هل تظنُ أنهم يدبرونَ أمراً جديداً؟"

"لستُ أطمئنُ لهذا الهدوء. على كلٍ هناكَ رقيبةٌ من رجالي أضعهُ ليلَ نهارٍ كي يرقبَ ما يقومُ به الترك."

"وَ من رقيبتكَ اليوم؟"

"عبدالكريم الدكسي."

"ألا ينامُ ذاكَ الرجل؟"

"هو كالذئب، ينامُ و عيناهُ مفتوحتان."

"حتى الذئبُ يحتاجُ إلى أن يرتاحَ وَ ينفّسَ عن نفسِه. أفرغ السطلَ بين رجالك، وَ سأسيرُ بالباقي إلى عبدالكريم."

"استرح يا شيخ. سوفَ أرسلُ أحدَ رجالي كي يقومَ بذلك."

"بل سأذهبُ بنفسي. أريدُ أن أحدثَ عبدالكريم في أمرٍ خاص."

"الأمرُ ما رأيت. أنا متأكدٌ أنه سيسرُّ كثيراً عندَ رؤيةِ الحليب" علّقَ الهزّاني وَ قد افترَّ ثغرهُ عن ابتسامةٍ عريضة.

حملَ الشيخُ قرناس ما تبقى من الحليبِ وَ سار متجهاً إلى المرقبِ المربعِ الواقع بجوار المسجد. لم يكن المرقبُ بعيداً عن موقعِ الحامية. صعدَ الشيخُ قرناس المرقب، وَ بمجردِ أن دهمَ المكان، إذا بفوهةِ بندقية عبدالكريم مُشرعةٌ في وجهه. ابتسمَ الشيخُ قرناس وَ مدَّ يدهُ بسطلِ الحليبِ قائلاً:

"جئتكَ بما يبلُ لكَ ريقَك."

أنزلَ عبدالكريم كعبَ بندقيتهِ الثقيلة، وَ مدَّ يديهِ ليمسكَ بسطل الحليبِ الدافئِ وَ يرفعه باتجاهِ شفتيهِ اليابستين و شاربه الكثّ. غابَ وجهُ عبدالكريمِ عن مرأى الشيخ قرناس للحظات قصيرةٍ كان يتخللها صوتُ الحليبِ وَ هو يهوي على دفعاتٍ وسطَ جوفه، حتى إذا ما انقطعَ الصوتُ و نزلَ السطلُ، إذا بوجهِ عبدالكريمِ وَ قد تحوّل شاربهُ إلى اللونِ الأبيضِ بالكامل.

"أكرمكَ الله."

"صحّةٌ وَ عافية. كيفَ هو الوضعُ عندَ الأتراك؟"

"حركةٌ مريبة تدورُ في معسكرِهم."

"ألم تكتشف ما ورائها؟"

"ليسَ بعد."

"منذُ متى و أنت تراقب؟"

"منذُ البارحة."

"ألم تنم بعد؟"

"ليسَ بعد."

"كيفَ تجدُ الرسَّ يا عبدالكريم؟"

"كغيرها من المدن."

"ألم يطبْ لكَ المقامُ هنا؟ لاحظتُ أن تستبسلُ في الدفاعِ عنها، و كأنكَ أحدُ أبنائها."

"هذا هو عملي الذي أتقاضى عليهِ أجراً."

"ماذا تنوي أن تعمل عندما ينفكُ الحصارُ بإذن الله؟"

"سوفَ أذهبُ حيثُ ذهبت الحامية."

"وَ ستتركُ هذا المكان الذي احتضنكَ وَ دافعتَ عنهُ وَ كأنك أحد ابنائه!"

سكتَ عبدالكريم، وَ أطرقَ برأسهِ إلى موضعِ قدميه. لم يكن الشيخُ قرناس ينتظرُ إجابةً يسمعها من عبدالكريم، بل أكمل مُعتزماً أن يتممَ الأمر الذي كان يجولُ بخاطرهِ منذ الفجر:

"اسمع يا عبدالكريم، أنتَ رجلٌ شجاع، وَ لقد رأيتكَ أكثرَ من مرةٍ وَ أنتَ تقفُ بجسدِك في مرمى الرصاصِ و كأنكَ مجنونٌ أو رجلٌ يريدُ أن يُقتل. أنا أفهمُ تصرفكَ هذا، فرجلٌ مثلكَ ليسَ لديهِ ما يقيّدهُ من الزوجِ و العيال. هناكَ أقوامٌ يهبونَ أنفسهم للحرب، لا يمكنهم أن يعيشوا بسعادةٍ بعيداً عن شفيرِها أو نارها، وَ لكنها تلقحهم وَ تستهلكهم، حتى يُقتلوا أو يفيقوا على أنفسهم وَ قد شابوا دون أن يخلّفوا ولداً يحملُ اسمهم وَ يخلّد ذكرهم. أنتَ من هؤلاء القوم يا عبدالكريم. قد تستغربُ كلامي هذا الذي قد يفهمه غيرك على أنه تثبيطٌ للعزيمة، لا سيّما أنه صادرٌ من قائد الحرب وَ أول من يدافع عن أسوار هذه الأرض التي نشأتُ فيها وَ أكلتُ من خيراتِها، وَ لكني أحبكَ يا عبدالكريم، و أرجو لكَ أن تبقى بعد انتهاء الحصار، وَ أن يصبحَ لكَ من الولدِ و الخلفِ ما تقرُ به عينكَ، وَ يبسمُ له ثغرك."

حاولَ عبدالكريم أن يفتحَ فمَه وَ أن يقولَ شيئاً بعدَ أن فاجأه حديثُ الشيخِ قرناس الذي خرجَ من شفتيهِ كالإعصار دفعةً واحدة، وَ لكن الشيخَ أردفَ قائلاً:

"لا أريدُ منكَ الآن رداً أو جواباً. فكّر بالموضوع، وَ إن استصوبتَ كلامي وَ عقدت العزم، أخبرني وَ سأجدُ لكَ فتاةً تليقُ بك."

لو أنَّ أيَّ أحدٍ صعد المرقب بعدَ خروجِ الشيخ قرناس منه، سيجدُ عبدالكريم في حالةٍ يُرثى لها، وَ قد تجمّدت عضلاتُ وجهه، و فغرَ فاه في بلاهة، وَ كأن سطل الحليبِ الفارغِ دُلقَ عليهِ بالكاملِ للتوّ.





-3-

"طاح امشيطِك يا العروس
إِلقطنه يا خَوَاتِي"

(من ألعاب البنات في الرسّ)

كادت منيرة أن تصاب بالجنون بسبب الطنين. منذ خروجها من بيت صاحبتها موضي الدهلاوي، و الطنين يحاصرها على طولِ السور. أخذت تتلفتُ يمنةً و يسرةً، و تطلعتْ إلى الأعلى و إلى موضعِ قدميها، دون فائدة. كانت متيقنةً بأنَّ هناكَ شيئاً غيرَ طبيعيٍ هذه الليلة. لم تعتد أن تخونها حواسُها، و لطالما أخبرها زوجها المتوفي بأن عينيها تستطيعانِ أن تميزا العبسة فوقَ قمة ساق، و أن أذنيها تسمعانِ دبيبَ النملِ فوق الرمل. كانت تحسُ أنَّ الهواءَ من حولِها يهتزّ، و كأنها أدخلت رأسها وسطَ خليةِ نحل!

هيَ متأكدةٌ أنَّ مصدرَ هذا الشعورِ الغريب ينبعُ من مكانٍ ما حولَها. لا يمكنُ أن يصدرَ كلّ هذا الطنينِ من داخلِ رأسها. لقد أزعجها حديثُ موضي الدهلاوي عندما ذكرت الزواج و أهميته للأرملة، و لقد غادرتها بعد صلاة العشاء و رأسها يطنّ بالأفكار. و لكن لا! لا يمكن أن يكون هذا الشعور نابع من رأسها.

انحنتْ منيرةُ بجسمِها إلى الأرضِ، و ألصقت إحدى أذنيها بالرمل. سرعانَ ما تأكدَ لها حدسُها؛ هذا الطنينُ الذي شعرت به منذ خروجها، و الذي أخذ يلاحقها على طول السور يصدرُ من الأسفل. أطبقت بيدِها اليسرى فوقَ أذنها الثانية، و كتمت نفسَها، ثم استغرقت في الإنصات؛ الصوتُ بالتأكيد يصدرُ من الأسفل. كان وقع الصوت يتعالى و ينخفض، كان يصدرُ من مكانٍ بعيد، و كأنهُ وقعُ طرقاتِ بابٍ تحتَ الأرض.

عندما انتصبت منيرةُ على قدميها، و اعتدلت من انحنائتها، كادت أن تقفزَ مذعورةً من مكانِها بعدَ أن شاهدتْ خيالَ رجلٍ طويل وسط الليل. كان الرجلُ يمسكُ بندقيةً طويلة، و يحدق نحوَها مباشرة. نهرت منيرةُ الرجلَ بصوتٍ عالٍ:

"بسم الله الرحمن الرحيم، ألا تتنحنح؟ كادَ قلبي أن يطيرَ بسببك."

"ما الذي كنتي تفعلينه؟"

"هناك صوتٌ يصدرُ من الأسفل."

"من الأسفل؟"

"كما لو أنَّ أحدَهم يطرق باباً بعيداً."

انحنى عبدالكريم برأسه نحو الأرضِ و ألصق أذنَه بالتراب. في البداية لم يسمع شيئاً، و لكن عندما أصاخ بسمعه قليلاً بدأ يستشعرُ صوت الطرق البعيد الذي وصفته المرأة له. التفتَ عبدالكريمِ بجذعهِ نحو السور الجنوبي و أخذ يتطلعُ باهتمامٍ و قلق.

"هل تعرفين بيت الشيخ قرناس؟"

"بالتو انصرفت من بيت أخت زوجته."

"اذهبي إليه حالاً و اخبريه بما سمعتي. قولي له، أن عبدالكريم ذهب يستطلعُ الأمر خارج السور، و أنه سيلقاكَ عند عودتِه عند المرقب."

"تقصد أن الصوت صادر من الأتراك؟"

لم يجبها عبدالكريم، و إنما انسلَّ بخفة و سرعة إلى الجهة الجنوبية للسور، حيث يوجد الجزء المتهدم منه، و الذي يواظب رجال الهزّاني على حراسته. عندما رأى مطلقُ عبدالكريم، أرادَ أن يستفهم منه سبب قدومه، و لكن عبدالكريم أشار عليه بالصمت، و تسلل بخفةٍ من خلال الفتحة المتهدمة إلى الخارج.

كان القمرُ نصفَ بدرٍ في السماء، و الرياح توقفت عن الهبوب منذ مدة. أخذ عبدالكريم يعدو بركبتين منثنيتين و كأنه جربوع، و فوهة بندقيته موجهة إلى الأمام و الأعلى، كي يستخدمها بسرعة إذا ما فاجأه تركيٌ على غفلة. عندما اقترب من أحد الطعوس الرملية انكبّ على بطنه، و أخذ يزحفُ على مرفقيه و ركبتيه حتى استطاع أن يطل من مكمنه على الأتراك. كانوا يجتمعون على بعد نصف ميلٍ تقريباً من معسكرهم حولَ حفرةٍ حفروها. لم يستطع عبدالكريم أن يتبين ملامحهم بوضوح وسط العتمة، و لكن خيّل لهُ من تلك المسافة أن الرجالَ الأتراك يروحونَ و يجيؤون من الحفرة و هم يضمون براميلاً إلى صدورهم. ألصقَ عبدالكريم أذنه بالأرض و أصاخ السمع. كان وقعُ الطرقِ أشدَّ وضوحاً هذه المرة. تسلل عبدالكريمُ من مخبئهِ، و قفلَ راجعاً نحوَ السور.

عندما وصلَ عبدالكريمُ إلى المرقب، وجد الشيخ قرناس و حسن بن مزروع و الهزاني و رجالات الرس في انتظاره. بادرهُ الشيخُ قرناس بالسؤال:

"ماذا رأيت؟"

"لم أتبين ما رأيته بوضوح، لكن يظهرُ لي أن الأتراك يحفرون نفقاً كي ينفذوا عبره إلى السور."

تغيرت وجوه الرجال، و بان الانزعاج على وجه الشيخ قرناس.

"هل أنتَ متأكدٌ مما تقول؟"

"ليس هناك تفسير آخر للصوت الصادر من الأرض و البراميل التي ينقلها الأتراك إلى الحفرة."

"إذن هم يريدون تفجير أساسات السور بالبارود."

"هذا ما أظنه."

"كم يلزمهم من يوم للوصول إلى السور؟"

"لا أعلم، و لكني أظن أنهم لم يبدأوا في حفرِه إلا حديثاً. لم ألاحظ حركة مريبة لهم في ذلك الموقع من قبل."

التفت الشيخ قرناس نحو رجال الرس و هتف فيهم:

"من يأتيني بقطة؟"

أخذ الرجال ينظرون إلى بعضهم في تردد و انزعاج، و قد خيّل لهم أن قاضيهم قد أصيب بلوثة في عقله.

"ما بالكم؟ أكثرُ ما أكثرَ اللهُ هي القطط. ليقفز أحدكم و يأتيني بقطة، و ليأتيني آخر بسعف نخلٍ يابس."

اندفعَ خمسةُ رجالٍ مع نهاية جملة الشيخ، و تفرقوا في طرقٍ مختلفة. لم تمضِ أكثر من ربع ساعة حتى عاد إثنان منهم بقطةٍ رمادية و سعفِ نخلٍ ممزوق. تناول الشيخُ أطول السعفات و أخذ يربطها إلى ذيل القطة.

"عبدالكريم، هل تستطيع أن تتسلل عائداً إلى الموضع الذي كنت فيه، و معك القطة؟"

"ما الذي تريد مني أن أفعله بالضبط؟"

"أريدك أن تشعلَ قبساً في السعف اليابس، حتى إذا ما توجست القطةُ حرارة النيران، اندفعت إلى الحفرة التي يحفرها الأتراك، لتفجرها و تفجرهم معها."

"و ما الذي يضمن لك أن القطة سوف تندس وسط الحفرة؟ ربما سوف تندفع هاربة في العراء!"

"هل سبقَ لكَ أن طاردت قطة؟ القططُ عندما يهربنَ لا يندفعن إلى الأماكن المفتوحة، و إنما يندسسن في الفتحات الضيقة و الجحور."

"لستُ مقتنعاً، و لكني سأفعلُ ما تقول."

"أنا أضمنُ لكَ حدوثَ ما قلت" أضاف الشيخُ بلغةٍ و اثقة و هو يناوله القطة.

هذه المرة لم يتسلل عبدالكريم وحيداً خارج السور، بل رافقهُ مطلق الذي كان يحملُ القطة بيد، و السعفةَ بيدٍ أخرى، كي لا تثيرَ الضجيج. عندما وصلا إلى الطعس الرملي انبطحا خلفَه، و قام مطلق بتوجيه رأس القطة جهةَ الحفرة، بينما أشعلَ عبدالكريمُ القبسَ في ذيلِ القطة. ابتعدَ مطلقُ بجسمهِ عن السعفة، و حاولَ أن يتحامى اللهبَ الأزرق الذي أخذ ينتشرُ على طول السعفة، حتى إذا ما شعرَ بجسم القطةِ يتقوسُ من الألمِ أطلقها، فقامت المسكينة بالدورانِ حولَ نفسِها مرتين، ثم اندفعت هاربةً و النارُ تنهشُ ذيلها نحوَ الأتراك.

رفعَ عبدالكريم جسمه في تهورٍ و أخذَ يتبعُ القطة ببصرهِ و هو يدعو اللهَ أن يكون مخطئاً عندما أساء الظن في خطة الشيخ قرناس. تنبهَ أحدُ الأتراك لمواء القطة العالي، و عندما رفع بندقيته الثقيلة، لم يرع إلا بالقطة تقفزُ في يأسٍ وسط الحفرة المؤدية إلى النفق، ليدوي صوتُ انفجارٍ هائلٍ وسط الليل، و لتمتدَ نيرانُ اللهبِ القاتلة حارقةً في طريقها كلَ من تمسُه ألسنتها الحمراء.




-4-

"يا حبذا ريح الولد
ريح الخزامى بالبلد

ما ادري أنا مجنونة
أو ما ولد قبلي أحد"

(أنشودة تنشدها الأمهات في الرسِ عندما يلاعبنَ أطفالهنّ)


رغمَ أن الخبرَ الذي سار به الشيخ قرناس إلى زوجته رقية، هو نفس الخبر الذي سارت بهِ موضي إلى صديقتها منيرة، إلا أن شعورهما كان مختلفاً تماماً. أحسَ الشيخ قرناس بسعادةٍ غامرة، لا يدري لها تفسيراً، حينما أثمر نهاره الذي قضاه مع الدكسي في إقناعه بمعاودة الزواج مرة أخرى. عندما ذكر الشيخ قرناس اسم منيرة للدكسي، و أوضح الدكسي أنه لا يعرفها، أجاب الشيخ أنها هي نفس المرأة التي أرسلها عبدالكريم لتنبئ الشيخ عن حادثة النفق و عن خبر الأتراك. أخبره عن تيتمها في طفولتها، و عن ترملها في شبابها، و أخبرهُ أنها سترحب لا محالة برجلٍ مثله، عرف جميع أهل الرس حسن بلاءه في الحرب، كما عرفوا عنه كرم أصله، و طيبة طبعِه.

لم يحظى الخبر بنفس الوقع الطيب عندما نقلته رقية إلى أختها موضي. لقد كان الشيخ قرناس يعلمُ أن أخت زوجته موضي هي أقرب الناس من منيرة، و أنها خير من تستطيعُ مفاتحتها بالموضوع، و لكنه لو رأى امتقاعَ وجه موضي عندما ذكرت لها رقيةُ أن الشيخ قرناس ينوي أن يخطب صاحبتها منيرة للدكسي عبدالكريم، لربما عدلَ عن رأيه.

سارت موضي إلى بيت منيرة و هي تقدمُ رجلاً و تؤخرُ أخرى، و أخذتْ تقلبُ في عقلها الكيفية التي ستفاتح فيها منيرة بالموضوع. إن مجرد الفكرة باعثةٌ للسخرية. عندما اقتربت من الباب، شدت من أزرها، و طرقته طرقاتٍ متتابعة.

فتحت منيرة الباب مهللةً مرحبة، و أجلست موضي على الأرض بينما أخذت تغلي الماء أمامها. بلعت موضي ريقها، و أزمعت أمرها، ثم هتفت قائلة:

"اسمعي يا منيرة، أنا لستُ إلا رسولةً إليكِ، و لولا أن أختي أوصتني أن أنقل ما ذكرهُ الشيخ، لما تجرأتُ أن أطرحهُ أمامكِ."

"خير إن شاء الله! ما القصة؟"

"الشيخ يريدُ أن يخطبكِ لأحد رجال الحامية."

"أيّ الرجال؟"

"الدكسي."

"عبدالكريم؟"

هزّت موضي رأسها و زمّت شفتيها كي تؤكد على استنكارها للموضوع.

"عبدالكريم الدكسي! عبدالكريم الدكسي! أصبرُ كل هذا الوقت لأتزوج من عبدالكريم الدكسي! من رجلٍ لا أصل له! من صلبي! هل أصيب الشيخ بالهبال؟ هل أصيب بالجنون؟ الدكسي؟ الدكسي أبو الحليب؟ لا بدَّ أنكِ مجنونة. لا بدَّ أن جميع من في بيتكم مجانين. هل قالوا لكم أنني إمرأة بائرة لا حظ لها؟ هل قال أحدٌ أنني ملهوفة إلى الزواج كي أتزوج من رجلٍ كالدكسي؟"

نهضت موضي و أبعدت الماء المغلي من بين يدي منيرة المرتجفتين.

"أنا لا دخل لي بالموضوع، لقد أحسستُ بنفس الغضب عندما ذكرت أختي رقية اسم الدكسي."

جلست منيرة على الأرض و هي تتميزُ غيضاً، و حاولت أن تكبحَ من جماحِ غضبها. بعد فترة صمتٍ لم تتجاوز الخمس دقائق عاودت الصراخ في غضب:

"الدكسي! ألم يجد غير الدكسي! ماذا فعلتُ للشيخ كي يتمنى أن يتخلص مني بهذه الطريقة؟ أليس الدكسي هو الشخص الذي قتل زوجته و فرَّ من قبيلته؟ هل يريد الشيخ أن يزوجني إياه كي يقتلني و يرتاح مني؟"

"يكفي يا منيرة. لا تقهري عمركِ بلا طائل. لولا أني خشيت أن أقصرَ في حق الرسالة لما نقلت لكِ الموضوعَ من الأساس. سوف أخبرُ الشيخ قرناس بأنكِ رفضتي."

"لا.. لا يكفي. يجب أن نلقنهما درساً كي لا يعاودا الكرة، الدكسي و زوج أختكِ قرناس."

نهضت منيرة من جلستها، و عادت لتضعَ مدقاً و نجراً بين يدي موضي.

"ماذا أفعل بهذين؟"

"سوفَ أحضرُ لكِ حبحراً لتدقيه وسط النجر، و من ثمَ سوف أصنعُ كليجة و أحشوها بالحبحر."

"تحشينها بالحبحر!"

"كي يعرفا أنَّ مثلي لا تتزوجُ رجلاً بلا أصل."

"سوف يغضبُ الشيخ قرناس."

"دعيه يغضب. أنتِ ليسَ لكِ دخل بالموضوع، قدمي لهُ الكليجة و قولي هذي من منيرة، صنعتها لكَ و لضيفك كي تعتذر و لتقولَ أنها لا تفكر بالزواج."

ضحكت موضي.

"لا أدري أينَ ستؤدي بنا أفكارك، و لكني سأعملها من أجلِك."




-5-

"ماذا لو أنَّ كل شئٍ في هذا العالمِ هو عبارةٌ عن سوءِ فهم؟ ماذا لو أنَّ الضحكَ في الحقيقةِ هوَ بُكاء؟"

(سورين كيركجارد)

لا تستطيعُ أن نعيشَ العدمَ بسوداويتهِ و بثقلهِ إلا إذا جربتَ الغياب. العدمُ -كما عرفهُ سارتر- هو ضريبةٌ حتميةٌ للحرية، لقدرةِ الوعي البشري على اختراق حُجبِ المستقبل. عندما تذهبُ لملاقاةِ أحدهم، ثم تفاجأ بتأخرهِ، بعدم قدومه، بغيابهِ، حينَها سوفَ تجربُ العدمَ لأولِ مرة. تستطيعُ و أنتَ تجلسُ في مكانِك الذي تنتظر فيهِ أن تعدَّ اسماءَ جميع الأشخاص غير الموجودين، و لكنهم ليسوا غائبين حقيقةً، ليسوا غائبينَ بالمعنى الذي ألحقهُ بكَ عدمُ مجئِ الشخص الذي تنتظره. العدمُ هو ضريبةٌ حتميةٌ للحرية، ذلك أن الحريةَ تسمحُ لوعيكَ أن يخترق المستقبل، أن تجعله يعي مقدار الاحتمالات و الخيارات الموجودة أمامه، كل ما عليه هو أن يختار. هذا الاختراق يجعلكَ تخلقُ حالةً حاضرة، يجعلُ حضورَ الشخصِ المُنتظَر شيئاً مفروضاً، شيئاً مُتوقعاً، و لذلك عندما لا يحضرُ الشخصُ الذي تنتظره، تصابُ بذلك الفراغ الأسود الهائل الذي يملأُ جسدَك و يطبقُ على روحِك.

أذكرُ كلَ ذلك كي أستوعبَ و إياكَ ذاكَ الشعورَ السوداويَ الثقيل الذي لحقَ بعبدالكريم الدكسي عندما وضعَ الشيخ قرناس طبق الكليجة بين يديه، و أخبرهُ عن رفضِ منيرةَ الزواجَ منه. لم يكن الزواج أمراً ملحاً بالنسبة لعبدالكريم، و لولا أن الشيخ فاتحه بالموضوع لما خطرَ على بالهِ بالمرة. و لكن، و بعد أن فاتحهُ الشيخ قرناس بنيته، و بعدَ أن ذكر له اسم منيرة و استأذنه ليخطبَها له، بدأ عبدالكريم بالتفكير جدياً بالموضوع، بدأَ يطرق الأبواب المُحرمة و المؤذية للمستقبل. بدأ يتخيلُ حياةً تختلفُ عن حياته المعقودة بالمخاطر و الترحال، بدأَ يتخيلُ زوجةً تنتظرهُ آخر النهار و تسأل عنه، وصلت به الجرأة أن ينفذَ إلى عاشر بابٍ خلفَ الحُجُبِ و أن يفكرَ بالأطفال. إنها حياةٌ تختلفُ تماماً عن حياته الحاضرة، و رغم أن فراقهُ لباقي رجال الحامية يعزّ عليه، إلا أنه لم يعد يطيقُ العيشَ بين النارِ و البارود. أكثر ما كان يغريه على طرقِ هذه الحياة الجديدة، هو أنها كفيلة بأن تنسيه ماضيه المُخيف و المُظلم الذي لا يريدُ لأحدٍ أن يطلّعَ عليه أو أن يسألَ عنه.

لهذا السبب، عندما أخبرَ الشيخُ قرناس عبدَالكريم برفض منيرة الاقتران به، أحسَّ بكلِ شئٍ ينهارُ أمامَه؛ أطفالهُ يموتون، زوجته التي تنتظرُ عودتَه إلى المنزل لا تنتظره، النار و البارود يحيطانِ به من جديد، و الجثةُ الباردةُ الصفراء لا تزالُ تلاحقَه من ماضيه. أحسَّ عبدالكريم بغصةٍ هائلةٍ تملأُ حلقَه، و بظلمة حالكةٍ تطبقُ على عينيه، و لكنه تجلدَ أمامَ الشيخ، و اغتصبَ بسمةً موجوعةً ارتسمتْ على زاويةِ فمِه.

"لم أكنْ أتوقعُ موافقتَها على كل حال."

شعرَ الشيخُ قرناس بالندم على اقتراحه المتعجل و هو يرى هذه التقلصات الموجعة ترتسمُ على وجه عبدالكريم. أحسَّ بعض الشئ بالراحةِ لمفاتحته عبدالكريم بالموضوع وسطَ المرقب، بعيداً عن الناس.

"المرأة ذكرتْ أنّ لا حاجة لها بالزواج حالياً، و لو أنها تفكر بالزواج فلن تلقى رجلاً أفضلَ منك. سألتني أن أعتذرَ منك، و أن أقدم لك هذه الكليجة التي تبرعُ في صنعِها. ماذا تنتظر؟ سمِّ بالله، و كُل."

ذكرَ عبدالكريم اسمَ الله، و تناولَ إحدى الكليجات بيدِه اليمنى، و قضمَ نصفَها وسطَ فمِه. ما إن لامسَ دبسُها الأسود لسان عبدالكريم، حتى جحظتْ عيناه، و توقفَ فكهُ عن الطحن. استغربَ الشيخ قرناس التغير المفاجئ الذي طرأ على وجه عبدالكريم:

"ماذا دهاك؟ ألم تستطب طعمها؟"

ابتلعَ عبدالكريم ما في فمه بصعوبة، و هو يتمنى لو أنّ قربة ماءٍ موجودةٌ حولَه كي يطفئ بها النار التي اشتعلت في جوفِه. ماذا يحدثُ بالضبط؟ هل للأمرِ علاقةٌ بخطبته؟ هل هي نكتةٌ سيئة للضحكِ منه؟ هل هي رسالةٌ خفية إلى الصلبي الذي تجرأ أن يخطبَ من هي أعلى منه نسباً؟

فجأةً، دوى صوتُ انفجارينِ هائلين، و تهاوت جدرانُ المرقب الترابية المخلوطة بالتبن فوقَ عبدالكريم و الشيخ قرناس.

نجحت نيرانُ القبسِ التركية في هدمِ ستةِ أدوارٍ من المرقب و تسويتِها بالأرض، كما نجحت في صنعِ فتحةٍ عريضة في السور. أخذَ الدخانُ و الغبارُ يتصاعدان من كومة الحطامِ على طول الفتحة، صانعانِ ستاراً كثيفاً يعيقُ على من في الداخلِ رؤيةَ الخطر الذي يقتربُ من خارج السور.

يروي أبناءُ مبارك الكفيف ما رواه لهم أبوهم عن ذلك اليوم، و الذي صادفَ أن يكونَ متواجداً وراء المرقب، حين كان صبياً، و قبل أن يلحقَ الرمدُ بعينيهِ ليعميَهما. يقولُ مبارك:

"اهتزتْ الأرضُ من حولي، و تداعتْ ستُ أدوارٍ من المرقبِ و كأنَّ يداً هائلة سقطت عليها من السماء لتسويها بالأرض. أخذَ الدخانُ يتصاعد من كل مكان، و عندما بدأ بالانقشاع تبينتُ فتحةً عريضةً على طول السور، و لمحتُ أشباحَ جندٍ أتراك و هم يتقدمون ناحيةَ الفتحة. هممتُ أن أرفعَ ثوبي و أفرَّ من مكاني، لولا أن رجلاً انتفضَ فجأةً أمامي من تحت الركام، لينتصبَ على رجليه و كأنهُ شيطان. كانَ شعرهُ مغبراً و ثائراً، أما عيناه فلقد كانتا حمراوتين و كأنهما من حطبِ جهنم. أخذَ الرجلُ يتلمسُ البندقيةَ المعلقة على ظهره حتى عثرَ عليها، و عندما تبينتُ سحنةَ الرجلِ عرفته مباشرة؛ كان هو الدكسي صاحب الحليب. أمسكَ الدكسي ببندقيته الطويلة و تأكدَ من حشوها، و عندَها، انطلقَ و هو يصرخُ بصوتٍ عالٍ جهة الفتحةِ و كأنَّ مساً من الشيطان أصابه. أخذَ أهل الرسِّ يلقون بسعف و جذوع النخيل على طول الفتحة، إلا أني كنتُ قادراً على أن أتابع الدكسي ببصري و هو ينطلقُ خارجَ السورِ ملقياً بنفسهِ نحوَ الأتراك. هوى أول إثنينِ من الأتراك برصاصتين من بندقية الدكسي، و عندما اقتربَ من التركي الثالث، ضربهُ بعقبِ بندقيتهِ فأرداهُ صريعاً. سرعانَ ما بدأتْ النيران تشتعلُ و تتصاعد من السعف و جذوع النخل، حاجبةً بذلك رؤية ما يجري خلف السور، و لكني أقسمُ بالله العظيم، أني رأيت الدكسي بعينيّ الإثنتين يقتلُ عشرةً على الأقل من الأتراك الكفار، قبل أن يهويَ صريعاً تحت نيرانهم ليجرونه إلى معسكرهم."



-6-

"لكننا لسنا مثل الناس!"

(الشيخ قرناس بن عبدالرحمن)

استمرَ الحصارُ لمدةِ ثلاثةِ أشهرٍ و خمسة عشر يوماً، و عندما تأكدَ إبراهيم باشا من استعصاء هذه المدينة الصغيرة و سورِها على رجاله، أرادَ أن يتوصلَ مع شيخها إلى اتفاقٍ يحفظُ لهُ ماءَ وجهه، و لا يطمعُ بهِ باقي مدن و قرى نجد. أرسل الباشا إلى الشيخ قرناس رسولاً يعرض عليه الصلح، على أن يسمحَ أهل الرسّ للباشا أن يدخل بصحبةِ عشرين رجلٍ من دون سلاح، ليطلعَ على تحصينات هذه المدينة التي استعصت عليه من الداخل. تمَّ الاتفاق على يوم الجمعة، و أمرَ الشيخ قرناس نساء الرسِّ بأن يلبسنَ ثياب الرجال كي يعتقد الباشا أنهم كثرةٌ فلا يطمعُ بهم. صلى الشيخ قرناس صلاة الجمعة بالناس، و ألقى خطبةً عن الوفاء معرضاً بها بالباشا الذي قال له بعد الخطبة: "أنتَ ذئبٌ و خطيبٌ في نفسِ الوقت."

لم ينسَ إبراهيم باشا هذه المدينة الصغيرة التي بقيت كالشوكةِ الدامية في حلقه، فأرسلَ و هو في الدرعية رجالاً إلى الرسّ كي يقتلوا الشيخ قرناس أثناء الصلاة. يُقال أن الشيخ قرناس استشعرَ حركةً غريبةً حينما دخلوا المسجد، و كانَ يقرأ على الناس سورة القيامة فأخذَ يعيدُ الآية "يقول الإنسانُ يومئذٍ أين المفر؟" حتى فهمهُ المؤذن محمد بن عبدالله الخميس فأجاب "إلى أبان الحَمَر"، فسجدَ الشيخُ قرناس وأطالَ السجود، ثم هربَ إلى حيث أشار إليه مؤذنُ مسجدِه.

الأخبارُ و الملاحمُ طويلةٌ و لا تنتهي، و الحقيقةُ تختلطُ مع الأسطورة حتى يصبح التفريقُ بينهما أقرب إلى المحال. تقعُ وسطَ الرسِّ مقبرةٌ تدعى بمقبرة الشهداء، حيثُ دُفن الأبطال الذين صمدوا في وجه الباشا و جنودِه. يحفظُ أهلُ كلِ شهيدٍ قصصاً لا تنتهي عن بطولات و أخبار قتيلهم المدفون، و لكنَّ هناكَ قبراً خارجَ أسوار الرسّ لا يعرفُ أحدٌ موقعهُ و لا يتذكرُ أحدٌ أفعالَ صاحبِه. يُقالُ أن صاحبَ القبر كان لا يخطئُ الرمايةَ أبداً، و يقالُ أنهُ أردى عشرةً من الأتراكِ قبلَ وفاته. رغم أن بطولاتٍ مثل هذه تبقى خالدةً و مرويةً بالعادةِ على مرّ الزمن، إلا أنَّ اسمَ صاحبِها لم يبقى إلا في أنشودةٍ قصيرةٍ يحفظها أطفالُ الرسِّ عن ذاك الرجل المجهول الذي كان مولعاً بشربِ الحليب.

ليسَ هذا كلُ ما تبقى من ذلك الرجل إذا أردنا الدقة، إذ يُقال أن نساءَ الرسّ تسامعنَ بأخبار البطولات التي حكاها مبارك الكفيف عن الدكسي قبل وفاته، و أنهنَّ الوحيدات -و بالأخص منيرة و موضي- اللاتي حينَ سمعنَ بالقصة أدركنَ السببَ وراء بطولات الدكسي المذهلة و الملحمية. منذُ ذلك اليوم، و نساءُ الرسِّ يكثرنَ من الحبحرِ في طعامِ رجالهنّ.



من البريد





اللهم أغفر لي ولوالدي ولجميع المسلمين .