المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة رهائن البحر



ابو اسامه
06-06-2014, 02:50 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته



كتاب رهـائن البحر , للكاتب (أبو لجين إبراهيم)



http://anaddaf.myqnapcloud.com/PC-NDF/vb/imgcache_1434/ndf_1402055414_946.jpg


ويحكي الكتـاب قصة واقعية حدثت للكاتب مع الشيخ محمد بن صالح المنجد وابنه ..

وقد قام الشيخ بسرد قصته في برنامج أسرة واحدة على قناة المجد , ولكن بعض تفاصيلها لم يرد ذكرها في الحلقة ,

ثم قام بكتابة بعض كواليس هذه القصة العجيبه الكاتب (إبراهيم) في هذا الكتاب بشكل موسع ..





أتمنى أن تستمتعوا بمشاهدة الحلقة من برنامج || أسـرة واحدة ||


اليوتيوب:



http://www.youtube.com/watch?v=UrjYwxJsWqw&feature=related




الصوت ,,


ملف مضغوط (http://www.rofof.com/9tlrew26/Almunajed.html)



صوت (http://www.rofof.com/9jclme26/Almunajed.html)





ومن بعدها تقومون بشراء الكتاب لإكمال قراءة القصة




للاستماع للقصة المختصرة من المنجد (صوت) :



ملف (http://www.rofof.com/9tlrew26/Almunajed.html) مضغوط




صوت (http://www.rofof.com/9jclme26/Dow.html)



عــن الـكتاب :

( قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين )..

{الأنعام63}





العنوان:رهائن البحر..قصة واقعية.

المؤلف: أبو لجين ابراهيم.

الناشر:مكتبة العبيكان.
عدد الصفحات:110صفحة.
أبطال القصة:ابراهيم والشيخ محمد وابنه أنس .









أقسام الكتاب:




1-قصة الكاتب.

2-الملاحق.

أ-البحر في رحاب الأدب والشعر.
ب-الإعجاز العلمي في آيات البحر.
ج-أحكام البحر\الشيخ صالح الفوزان.








يقول كاتبها في مقدمة الكتاب :





(رهائن البحر.. قصة واقعية .. ولكن أحداثها المرعبة وفصولها المثيرة لاتزال تظهر أمام نواظرهم كالحلم المرعب أو الكابوس الثقيل


ولذلك فكلما هموا أن يكتبوا عنها تهيأت لهم لحظة الموت أوصورة أسد يفغر فمه ويكشر عن أنيابه وحينئذ تداهمهم رجفة الموت

وترعبهم هيبة الحدث وتعصف بهم الذكريات المثيرة حتى تدفعهم بقوة إلى أن يمسحوا وجوههم بباطن أكفهم ليتلمسوا
أجزاء أجسامهم وليتحسسوا نبض الحياة وهنا يختلط عليهم تسلسل الأفكار وتظطرب
المشاعر ويتوقف القلم عن الكتابة..).

ابو اسامه
06-06-2014, 02:51 PM
قصة غرق الشيخ محمد صالح المنجد وفقه الله تعالى قصة مشهورة ، حدثت قبل سنوات ، وقد تكلم عنها بعض الأكارم بعد الحادث ، وكتب عنها من كتب ، وتناقلها الإخوة في مجالسهم واجتماعتهم .

وقد سألتُ الشيخ محمد المنجد حفظه الله قبل سنتين تقريبا وكان معه ابنه أنس وقد قارب سن الـ(15) عن صحة هذه القصة ، فتبسم وقال : " نعم ، وهذا هو ابني الذي كان معي " .

ولم أكن أعرف صاحب الشيخ المنجد الذي أبحر معه حتى اطلعت اليوم على موقع الكاتب الأستاذ / أبي لجين إبراهيم وهو كاتب معروف له جهوده المشكورة ، وقد كتب قصته مع الشيخ المنجد حفظهما الله ، فعرفت أنه هو .... والحمد لله على سلامة الجميع .

فأنقل لكم القصة بنصها كما جاءت في موقع ابي لجين إبراهيم ( لجينيات ) :

قال أبولجين إبراهيم :


بسم الله الرحمن الرحيم

تحقيقاً لرغبة الكثير من الأخوة الأفاضل ، سأعود بكم إلى الوراء لأروي لكم قصة غرقي في البحر مع صاحبي أبي أنس وطفله الصغير الذي كان عمره لا يتجاوز ثلاث سنوات :

سأروي لكم اليوم قصّتي في البحر.. إنّها قصّة مَنْ وقف على شُرفة الموت، وشمَّ رائحة النزع، وعانق مخالب الاحتضار، إنّها قصّة ليست قريبة العهد نسبيّا، ولكن أحداثها المرعبة وفصولها المثيرة لا تزال تتمثّل أمام ناظريّ فكأنها الحلم المُرعب أو الكابوس الثقيل.. كلما هممت أن أكتب عنها تهيأت لي صورة الموت فاغراً فاه.. مُشهراً أنيابه.. فداهمتني رجفة الموقف، وهيبة الحدث، فألْجمتْ قلمي وعصفتْ بذهني، وطفقت أمسح بكفيّ على وجهي وجسدي لأتحسس نبض الحياة.. ولتتوارد الأسئلةُ أمامي.. هل صحيحٌ ما حدث؟! هل أنا اليوم حيٌّ أُرزق؟! هل لا زالت أنفاسي تتردد وقلبي يخفق؟! فأين عبارات الحمد التي تفي بمشاعر الامتنان لله عزّ وجلّ؟!! وأين كلمات الشكر التي توازي فضل الرحيم الرحمن.. السلام المؤمن.. الحفيظ العليم؟!! يا للمنّة!! ويا للعطاء!! ويا للفضل والسخاء!!

بدأت أحداث القصّة بعرض فكرة "رحلة الصيد البحريّة" على صاحبي الداعية الإسلامي المشهور، والخطيب المفوّه، والباحث المحقق، وإمام الجامع الأشهر بمدينة الخبر على الشاطئ الشرقي للمملكة.. إنّها رحلة صيد في كبد البحر.. ولكن يا ليت شعري كم من صيّاد أصبح صيداً.. وكم من مخبرٍ أصبح خبراً عابراً :


جُبلت على كدر وأنت تريدها *** صفواً من الأقذاء و الأكدار

ما إن يرى الإنسان فيها مخبرا *** حتى يُرى خبراً من الأخبار

وحظيت الفكرة بموافقة صاحبي بعد إصرار مني .. واتفقنا على الانطلاق بعد صلاة العصر في ذلك الخميس من مرفأ مدينة الملك فهد الساحلية.. وحضرت أنا وصاحبي في الموعد المقرر ومعه ابنه أنس (3سنوات).... واستقلنا قاربي الموسوم بـ "هاني الأول".. وودعنا شاطئنا لنستعرض البحر بمركبنا الصغير.. في نهار ساكن النسمات.. زكيّ النفحات.. وكأنما نسير في صَدَفة زرقاء تحيطنا من حولنا زُرقة البحر الصافية.. وتغمرنا من فوقنا زُرقة السماء الصافية.. والموشحة بقطع فارهة من السَّحاب الأبيض الرائع المتقطّع كاللؤلؤ المنثور في صدفتنا الزرقاء.. وفي هذا الجوّ الرائع والمنظر الساحر كنتُ أستمع في استمتاع إلى حديث صاحبي الشائق وهو يحدّثني ويحدّث ابنه الصغير عن أدعية الركوب.. وعن عظمة الله.. وعن البحر.. وعن حديث القرقور.. وقصّة صاحب الأخدود..

ومع الحديث الماتع ذهبنا بعيداً في عُمق البحر.. ثم أوقفنا قاربنا لنبدأ عمليّة الصيد.. وما هي إلا دقائق معدودة حتى ظفرنا بسمكة كبيرة كدت وصاحبي أن ننوء بحملها لإدخالها في القارب.. ليصرخ أنس خوفا من تلك السمكة ونسارع إلى طمأنته وبيان محاسنها وصفاتها ولطف أخلاقها وأصالة معدنها!!! ونعدُه بوجبة عشاءٍ بحريّة لذيذة!!

ثم قررنا أن نغير مكاننا لنظفر بصيدٍ آخر.. وتحدث المفاجأة......

المحرك الأصلي لا يعمل.. ولم تفلح محاولاتي الكثيرة في تشغيله..

واضطرني هذا لتشغيل المحرك الإضافي.. وهو محرّك أضفتُهُ مؤخرا بناءً على شروط حرس الحدود كأحد شروط السلامة البحريّة إضافة إلى أطواق النجاة..

ويشتغل المحرّك الاحتياطي.. ونتحرك باتجاه الشاطئ .. وأفاجأ بأن الخزان المجاور للمحرك قد امتلأ بالماء لأسباب لا أعلمها حتى الآن.. وربما يكون لحدوث تهريب من صُرّة القارب المعدّة لتنظيفه على الشاطئ..

وهنا تتصاعد أنفاسي.. ويحاصرني القلق.. ويداهمني الخوف –ليس على نفسي فأنا أجيد السباحة ولله الحمد- ولكن على ذلك الشيخ الفاضل الذي نفع الله بعلمه القاصي والداني.. وفتح الله له قلوب الناس.. وأظهر الله به السنّة.. واعتصرني الألم على ابنه الصغير..

وهممتُ أنزحُ الماء والشيخُ يساعدني.. ولكن هيهات.. إنما هي لحيظات قليلة ويختلُّ توازن المركب من الخلف.. ليغوص في قوّة وسرعة باتجاه عمق البحر.. وفي غمرة الحدث يلقي الشيخ إليّ بابنه أنس لأتلقفه.. وتبتلعنا دوامة الموج التي أحدثها القارب لأغوص مع الطفل الصغير في الأعماق.. وأصعد بصعوبة بالغة.. لقد كانت هذه اللحظة من أحرج اللحظات في حياتي.. لأن الموقف كان أقوى من مهارات السباحة التي أجيدها.. ولقد كدت أن أفقد الطفل في عصفة الموج وهول الصدمة لولا توفيق الله وعنايته وتثبيته...

ونعود للسطح بعد هدأة العاصفة وأنا أمسكُ بالطفل.. وكلّي تساؤل عن حال الشيخ ومآله.. ولقد أيقنت أنه لن ينجو من ذلك الموقف أبدا لأنّه لا يجيد السباحة.. ولكن بفضل الله وجدت صاحبي ممسكا بجالون فارغ.. ومن كرم الله ولطفه أن تلك الحركة السريعة للقارب تسببت في فتح صندوقٍ مغلقٍ كان يحوي أطواق النجاة والتي طفت بدورها على سطح الماء.. ألقيت بطوق نجاة لصاحبي والذي استعاد توازنه.. وجذبت طوقا آخر لي.. لتبدأ الرحلة الشاقة الشاقة في الوصول إلى الشاطئ البعيد..

سبحان الله.. إنها مجرد ثوان معدودة تلك التي تفصل بين الأمان والخوف.. والمتعة والمشقة.. والنعمة والنقمة.. والسكون والعاصفة..

خلق الله هذا البحر السادر الهادر.. فما أجمله في سكونه وهدوئه وصفائه وعظمته وانشراحه.. ولكن –أيضا- ما أسرع غدرته، وما أقوى ثورته، وما أشد صولته.. وما أعظم سطوته..

فيه روعة جمال.. وعليه مهابة وخشوع.. وله طعنة لا تكاد تخطئ !!

إنه -بقدرة الله تعالى- يحمل الأرزاق.. ويقطع الأعمار..

إنّه يبعث الأمل.. ويجلبُ الألم..

إنّه يبهج الناظر.. ويحزن المُثكل..

كم من بعيدٍ قرّبه.. وكم من قريبٍ بعّده..

ربما يحمل المرضى إلى مواطن الاستشفاء.. وربما يهلك الأصحّاء ويبتلع الأحياء..

لقد تحولّت تلك الصَدَفة الزرقاء إلى خطر أحمر.. وتبدّل ذلك الصفاء إلى طوفان هادر.. وتلك النفوس التي كانت قبيلُ منشرحة تضيق الآن بتزاحم مشاعر الخوف والحزن وتأنيب الضمير والرجاء في فرج الله.. وقد تحشرج الصدر واستحكم الأمر فلا منجى من الله إلا إليه.. ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم....

كان الوقت قبيل الغروب.. وكنت أرجو من الله أن يسخّر لنا من حرس الحدود أو من الصيادين من يعبر بالقرب منّا فيمد لنا يد العون والمساعدة.. وتتطاول الدقائق فكأنما هي السنوات.. ويضمحل الرجاء فيما سوى الله من أسباب.. ويتلاشى الأمل مع إغماضة الشمس لعينيها لتسدل الستار على يوم عصيب لا زلنا نكابد لحظاته ونتجرع سكراته.. وتتركنا الشمس على صورة رجل يحمل طفلا صغيرا يصارع به الأمواج.. ورجل آخر متعلّق بجالون وطوق نجاة هما –بالنسبة له- كل ما تبقى له من أهداب الحياة وأسباب النجاة –بعد حفظ الله عز وجل-.

لقد كان الشيخُ أثبت منّي إيماناً وأقوى عزماً، وأقرب إلى الله عزّ وجلّ، حيث أخذ يشد من عزمي، ويذكرني بالله عزّ وجلّ، واللجوء إليه في الشدائد، ويتلو عليّ أدعية الهمّ والكرب ودعاء يونس عليه السلام، بل بيّن لي أحكام الوضوء وكيفيّة الصلاة في مثل هذا الوضع.. وأوصاني بإشغال قلبي ولساني بالذكر..

إنها طبيعة الإيمان الصادق والعقيدة الراسخة حينما تتجلى ثمراتهما في أحلك الظروف، حينما تحمرّ عاصفة البلاء، ويهيج طوفان الفتن، فإذا القلوب المفعمة بالإيمان الحق والعقيدة الصافية ترسخ رسوخ الجبال فلا تميل ولا تحيد، بل تقف كالملاذ الآمن لدهماء الناس، وتقترب كالشاطئ الساكن الذي يتلقف الغرقى من كماشة الهلاك..

كان الشيخ قريبا مني يؤنسني ويثبتني ويهوّن المصاب في عيني، ويبعث الأمل في فرج الله.. وكان ينادي علي بين الحين والآخر..

يستلقي الشيخ على ظهره ممسكا بأطواق نجاته.. وهو وضع يصعب معه رؤية ما حوله.. ثم يسمع صوتا فينادي عليّ مبشراً بقدوم قارب.. وألتفت يمنة ويسرةً بقدر ما يسمح لي الظرف.. ولكن يتبيّن لي بأنها طائرة عمودية.. ولقد ظننتها جاءت تبحث عنّا حيثُ لوّحت بيدي وصرخت.. ولكن.... لا حياة لمن تُنادي.....

وتتماوج بنا حركة البحر صعوداً ونزولا، واقتراباً وابتعاداً، وأدركت أننا سنفترق بحكم اتجاهات الموج..

لقد كانت جميع الاحتمالات واردة، فإما أن يمنّ الله علينا بالسلامة، أو أن أهلك ومعي الطفل، أو أنجو أنا ويهلك الطفل أو أن يهلك الشيخ، بل إن مزالق الموت حينها أقرب لنا من جسور الحياة.. وعندها طلبت من الشيخ – تحت وابل من تأنيب الضمير- أن يسامحني وأن يحللني مما اقترفته في حقّه وحق ابنه وعائلته إنْ حصل مكروه.. كلُّ ذلك انطلاقاً من شعوري بالتقصير لأنني كنتُ من اقترح الرحلة وأعد القارب وخطّط للنزهة..

ويحينُ علينا وقت صلاة المغرب وعملتُ بوصيّة الشيخ فنويت الوضوء على وضعي وصليت المغرب في عرض البحر خائفا أترقب.. ويدلهّم الليل ، لم أعد استطيع أن أرى صاحبي ولكني لا زلتُ أسمع صوته، كان يناديني بين الفينة والفينة: يا إبراهيم كيف حالك؟ وكيف حال ( أنس )؟ فأردُّ عليه مباشرة: كلانا بخير، ينقطع الصوت فترة فأناديه: يا أبا أنس كيف حالك؟ فيقول: أنا بخير، وهكذا ...

وبدأ الصوت يتلاشى تدريجياً بسبب تباعدنا، والموج يحمل كلا منّا إلى جهة.. ومرت دقائق قليلة حتى يخيل لي أني أسمع صوته يناديني ولا أدري هل كان يناديني أم هو مجرد استرجاع لصوته السابق!! وحتى أقطع الشك باليقين أصبحت أناديه بصوتٍ عالٍ فلا أسمع أي إجابة!! وأدركت حينها أن الوداع قد حلّ وأن الأمر أصبح أكثر صعوبة عليّ من السابق.. حيثُ بدأت أفتقد صاحبي الفاضل بصوته المؤنس، وكلماته المثبّته، وقُربه الدافئ ، وأذكاره المضيئة التي تنير هذا الأفق المظلم، وتبعث الأمن في النفس المضطربة، وتفتح أبواب الرجاء من فرج الله.. لقد أصبح ابتلائي الآن أشد من ذي قبل، حيث وجدت نفسي أهيمُ في ظلمة الليل الداجي، ولجّة البحر السحيق، على الخط الحدودي الفاصل بين فسحة الحياة وقبضة الموت، وأنا أحمل بين يدي أمانة عظيمة، ووديعة غالية هي ذلك الطفل الصغير بدمه ولحمه ومشاعره البريئة، وهو غافل عمّا يدورُ حوله، أحمل في عنقي أمانة رعايته وحفظه بما أحفظُ به نفسي.. يا لها من وحشة.. ويا لها من مسئولية, ويا له من بلاء!!!!


أراك هجرتني هجراً طويلاً ** وما عوّدْتني من قبل ذاكا

يعز علي حين أدير عيني ** أفتش في مكانك لا أراكا

وما فارقتني طوعا ولكن ** دهاكَ من المصائب ما دهاكا

ويقوم الشيطان بدوره المعهود في إثارة الشكوك لـيزيد حـُزني ، وليفتَّ في عزمي ، ويثير التساؤلات الكثيرة: أين صاحبي؟! لماذا لا يرد على نداءاتي؟! لماذا خفت صوتُه؟! إنه لا يجيدُ السباحة!! ربما أصابه الإعياء!! ربما غمره الموج!! فأستعيذ بالله من الشيطان الرجيم..

ثم يبدأ انسُ بتساؤلاته البريئة: وين رايحين يا عمو؟!! أين السمكة الكبيرة التي صدناها؟! ثم تتصاعد حدّة الأسئلة مع افتقاد أبيه ومع الإرهاق والتعب فيسأل عن والده: أين أبي؟! لماذا لا أراه؟!! أريد والدي.. ثم يبكي.. ويدفعني بيديه وقدميه ليحرر نفسه من قبضة هذا الرجل الذي لم يألفه بعد...

لم تكن تساؤلات أنس مجرد استفهامات عابرة لمن هو في مثل حالي.. لقد كانت كالنصال الحادّة التي تنهش في فؤادي وأنا أصارع الموت وأسير نحو المجهول المرعب، وكانت كالسياط المؤلمة التي تسلخ جلدي وأنا أشعر بتمام مسئوليتي عمّا حدث، وكانت كالكابوس المزعج الذي تتمنى أن تستيقظ منه لتجدك على مُتّكئ السلامة أو سرير الدّعة.. يا الله!! ما أصعب الموقف !! فأمامي مهمة تنوء بحملها الجبال الرواسي.. فهل أتمكن من قطع هذه المسافة الطويلة!! أم تعتريني فيها الأخطار المترصّدة!! إعياء منهك.. أو أسماك قرش تدور.. أو موج يهتاج!! أو عارض آخر.. ويلتفت قلبي إلى الخلف فيكاد يتقطّع على الشيخ.. ما حالُه!!.. يا ترى هل نلتقي أم أن تلك اللحظات كانت آخر سطر في دفتر ذكرياتي معه!!!

وفي غمرة الأفكار المتلاحقة أيقنتُ أن لا منجى إلا بالاتكال على الله عز وجل وترك الأوهام، والخروج من هول الصدمة إلى العمل الجادّ، والسعي الحثيث في بذل الأسباب للوصول إلى الشاطئ البعيد في أسرع وقت ممكن لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، والتبليغ للبحث عن الشيخ إن كتب الله له السلامة.. معتمداً على الله ثم على مهاراتي في السباحة الطويلة، وأدركت أن من حكمة الله تعالى أن أبتعد عن الشيخ لأباشر العمل في هذا الاتجاه..

ابتدأت بتحديد أقرب المسارات إلى الشاطئ ، فالبحر الداجي يمتد خلفي في مداه السحيق.. وهناك الشاطئ المضيء تلوح لي فيه من بعيد سراب من عقود متلألئة لأنوار الطريق الساحلي لشاطئ نصف القمر، وأرى أمامي مَعلماً ممتدا في رأسه إنارة لم أستطع تحديد معالمه.. نصبت وجهي لذلك المعلم الممتد ..

وابتدأت على بركة الله في السباحة الطويلة الشاقة.. لقد أرهق الطفل من ذلك الوضع المتعب.. وبدأ يعاني من القلق والخوف والوحشة .. فتارةً يغفو وتارةً يصحو فزعاً.. وتارةً يثير التساؤلات البريئة.. وكثيراً ما يبكي ويسأل عن أبيه.. وأنا أواصل السباحة الجادّة.. وأدعو الله عز وجلّ أن يمنّ علينا بالسلامة.. وأكرر دعاء يونس عليه السلام ودموعي تختلط بقطرات البحر الثائرة حولي: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين.. لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين..

وفجأة يصرخ أنس ويصيح.. أسأله ما بك؟!

قال: سقطت حذائي.. أريدُ حذائي.. فقلت يا أنس نحن في مأساة وأدعو الله أن ينجينا مما نحن فيه من كرب، فقال: أريدُ حذائي!! قلت له: أما حذاؤك فقد سقط في البحر ولن نعثر عليه.. وسنشتري لك أفضل منه. فاستمر في البكاء.. فما كان منّي إلا أن خلعت الحذاء الآخر ورميته في البحر.. فسكت الطفل ولم أكلف نفسي معرفة ما إذا كان ذلك اقتناعاً أم خوفا !..

وأدركت أن وقت صلاة العشاء قد حان منذ فترة وكان لزاماً علي أن أصلي وكيف لي أن أتأخر عن أداء الصلاة التي لم يُسمح للمسلم أن يتركها حتى في أحلك الظروف.. بل ما أحوجني للصلة مع الله في هذه الحالة التي أشهد فيها مظاهر ضعفي إلى قوة الله.. وقلة حيلتي إلى حوله وطوله.. وضيق حالي إلى سعة فضله ومنّه.. وعجزي إلى قدرته.. وخوفي إلى أمنه.. وشتات أمري إلى حفظه ورعايته..

إن للحظات الضعف وحالات البلاء أحيانا جميل الفضل وعظيم الأثر في إيقاظ قلوبنا الغافلة وتزكية نفوسنا من غبار المعصية وران الغفلة.. تماماً مثلما تزكي النار الذهب من العوالق الرديئة.. إنها لحظات نفيسة تتبدّى فيها الدنيا على حقيقتها الزائفة وقد سقطت أقنعتها وخرجت من مساحيقها المضلّلة.. إنها لحظات نفيسة تبيّن لك كم كنت معرضاً عن الله.. وكم كنت مفرطاً في جنب الله.. وكم كنت تعمل للدنيا كأنك تخلد فيها.. وكم كنت تلهو عن الآخرة كأنك لن تبلغها..

نويت الوضوء –كما علمني الشيخ- ومسحت ما أستطيع أن أمسح من مواضع الوضوء، ورفعت الأذان وأن أتذكر أني وإن كنت لوحدي نقطة ضائعة في هذا المدى المظلم فإن الله يسمعني.. والحيتان تسبّح من حولي.. وأجر المؤذن يبلغ ما بلغ أذانُه.. ثم أقمت الصلاة وصليت صلاة العشاء في وقت متأخر ولكني أظن أنها أخشع صلاة صليتها في حياتي.. إنها صلاة الخائف الذليل.. صلاة الضعيف الذي ينوء بأمانة عظيمة.. صلاة المضطر المكروب.. صلاة الغريب المستوحش.. صلاة المودّع الذي يوشك أن يغيب عن هذه الدنيا الفانية الرخيصة.. دنيا اللهو والغرور واللعب..

وأستأنف سباحتي الشاقة والطفل ينام على كتفي الأيمن تارة وعلى الأيسر تارة أخرى.. ويدور أمامي شريط حياتي.. وأتذكر كم من ذنوب خلت.. وغفلات ألهت.. وإعراض صدّ.. لقد أدركت في ذلك الموقف الخطأ الفادح في موازين اهتماماتنا، وفي جهل نظرتنا لواجبات الدنيا وأعمال الآخرة.. لقد تحقق لي حينها بأننا مشدودون لهذه الدنيا، مرتهنون بجاذبيتها ومحسوساتها، بها نفكر.. وفيها نوالي ونعادي.. ولها نبني ونخطط.. مشدوهين عن الآخرة بحقائقها العظيمة ومنازلها الخالدة الأبديّة.. كم هي هذه الدنيا في الآخرة وزناً وزمناً ومنازلاً ؟!! ما مقدار مكثنا في كلٍ منهما؟!! هل تفكرنا في ميزان الله البيّن: ( وللآخرة خيرٌ لك من الأولى ) ؟!!!

وتطوف بي أهم ذكرياتي ومراحل حياتي وحفظ الله لي.. وكان من بين ما برز أمام فكري قصة تعلّقي وأنا صغير على أحد الأسياخ الحديديّة لسور السطح المُشرف على الشارع من ارتفاع شاهق.. وقد بقيت معلّقا بطرف ثوبي موشكاً على السقوط الحُرّ المميت لفترة من الزمن لولا أن وفقني الله بعد معاناة للتخلص دون مساعدة أحد.. إنها أسهم القضاء التي يقدرها الله فتخطيء الشخص بأمر الله حتى يأتيه السهم المسوّم من عند ربّك.. ( فإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستئخرون)..

عدت للأذكار والدعاء.. وانصهر قلبي بين يدي الله في هذا الموقف الحالك الذي ذكره القرآن مثالاً على الاضطرار وصدق اللجوء لله حتى من الكفار المشركين أولي القلوب المتحجّرة.. حينما تذيبها نار الكرب فتلين لله وتعترف بربوبيته فترجو فرجه.. لقد دعوت الله بكل قلبي دعاء المضطر إلى رحمته الراجي لاستجابته ( أمّن يجيب المضطر إذا دعاه )

بذلت أقصى الجهد في سباحتي باتجاه المعلم الذي كنت أراه من بعيد، ثم اكتشفت بعد ساعتين من الجهد والتعب أنني لم أحقق أي تقدم فالمسافة بيني وبين ذلك المعلم تبدو لي ثابتة كأنها لا تتغير.. وشعرت بأن الموج المعاكس – رغم ضعفه- قد كان يؤخر تقدمي نحو المعلم ..

أحسست بالهمّ وضيق الحيلة.. فبدأت أناجي ربي بصوت مرتفع .. بدأت أراجع نفسي متسائلا: هل ربي راضٍ عني أم غاضب ؟؟!!

وعدت للسباحة الجادة بعد أن تجدّد عزمي، وكنت أنظر إلى السماء فأرى النجوم على غير ما رأيتها من قبل فكأنها تشجعني بوميضها، وتسليني بثباتها.. فسبحان من سخرها.. وأنظر يميناً وشمالاً لعلي أرى أحداً، أتساءل هل سيتحرك خفر حرس الحدود للبحث عنا ؟؟ وأجيب على نفسي بأن ذلك مستحيلا لأني لم أترك اسمي لديهم ولم أركب البحر من بوابتهم!! ولقد يخيل إلي أحيانا – في غمرة الأفكار- رؤية بعض القوارب تمر أمام عيني، ثم ما تلبث في ثوان معدود أن تضمحل كالسراب العابر والطيف الوامض.. لأبقى في واقع يفيض بالخطر !!

قررت التركيز على السباحة الجادّة والذكر والدعاء.. وكان يقيني بالله يزداد في النجاة لأني أدركتُ أنّي بدأت أحرز تقدماً نحو هدفي.. وشعرت بالحماس.. وبدأت أشمُّ رائحة النجاة.. وذرات جسمي تتلهف في أعظم درجات الشوق لملامسة تراب الأرض.. والاستلقاء على أديمها في أمن وسلامة.. تماماً مثلما يرتمي الابن على صدر أمّه الرؤوم.. يستنشق عبيرها.. ويتدثر بحضنها.. ويتدفأ بحنانها..


ولا تجزع إذا أعسـرت يومـاً *** فقد أيسرت في الزمن الطويل

ولا تظنن بربـك ظـن سـوءٍ *** فإن الله أولى بـالـجـمـيل

وإن العسر يتـبـعـه يسـارٌ *** وقول الله أصدق كـل قـيل

فلو أن العقول تسـوق رزقـاً *** لكان المال عند ذوي العقـول

وأثناء هذه المرحلة المستبشرة يستيقظ أنس – ونحن ربما بعد منتصف الليل - ليصرخ وهو يؤشر للخلف ويبكي ويصيح: سمكة ... سمكة .. سمكة..

توقفت عن السباحة ، سألته : أي سمكة ؟؟؟

فقال : هنا سمكة كبيرة يا عمو خلفك ..

فلا تسألني ما الذي حدث في كياني من خوف ورهبة عندما أدركت أن ما يقوله الطفل قد يكون حقّا.. ولقد كنت أخشى ما أخشاه حينها هو اقتراب سمك القرش المتواجد في الخليج.. والذي ستكون به نهايتنا حتمية في أقسى صورها .. وأعنف أحداثها..

لم يكن مني إلا أن همست للطفل أنس أن يسكت ... وبدأ الوسواس يراودني.. وبدأت أفقد قواي.. ليذبل أملي في النجاة بعد أن بدأت أرى الفرج، لقد كنت حينها انتظر متى يشرع ذلك الشبح البحري الجامح في تمزيق أجسادنا الضعيفة دون هوادة.. لقد كنتُ أشعر بدنوّ أنيابه عند أقدامي.. وتلاحقني خيالات مرعبة.. فو الله لقد بلغ بي الخوف مبلغه، ولم أجد من حيلة إلا أن أدعو الله بصوت خافت وأردد " بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم .. أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما أجد وأحاذر .. إلهي .... لا أريد أن أموت هذه الميتة، لا أريد أن يتمزق جسمي، وبدأت أبكي وأردد ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) ..

يا مـن تـحـل بـذكـره عقد النـوائب والـشـدائد

يا من إليه المـشـتـكـى وإليه أمر الخلـق عـائد

يا حـــي يا قـــيوم يا صمد تنزه عن مـضـادد

أنت الرقيب على الـعـباد وأنت في الملكوت واحد

أنت المعـز لـمـن أطـاعك والمذل لكل جـاحـد

إني دعوتـك والـهـمـوم جيوشها نحوي تطـارد

فافرج بحولك كـربـتـي يا من له حسن الـعـوائد

فخفي لطفـك يسـتـعـان به على الزمن المعانـد

أنت الميسر والـمـسـبب والمسهل والمسـاعـد

يسر لنـا فـرجـاً قـريباً يا إلهـي لا تـبـاعـد

كن راحمي فـلـقـد يئست من الأقارب والأباعـد

مرت أكثر من عشر دقائق ونحن في سكون وهدوء.. لا نكاد نتحرك ولا نتحدّث لئلا يسمعنا هذا القرش الفاتك، وبعد تردد قررت أن أواصل مسيري وأنه ليس لنا إلا ما كتبه الله ، ولكن القوى خارت والعزائم هانت والحماس ضعُف، وأثناء سباحتي المتوجّسة يصيح أنس مرة أخرى مثل السابق ويقول : السمكة السمكة!! .. توقفت فوراً وقلت له : أين هي ؟؟ فقال : هنا يا عمو عند أقدامك! ، هنا .. عاودني الخوف، وتملكني الفزع مرة أخرى.. فتوقفتُ وشرعت أردد الأدعية، وبدأت السكينة تعلوني وأنا أتأمّل.. فلو كانت سمكة قرش لما منحتنا كل هذه الفرص.. وعاودت السباحة.. فصرخ الطفل أنس مرددا: ( السمكة ... السمكة ) وهو يبكي ، هنا أدركت أن الأمر متعلق بسباحتي.. فسألته أثناء توقفنا هل يراها، فأجاب: لا!!.. ثم سبحت قليلا فصرخ: السمكة السمكة.. عندئذٍ أدركت أن أنس كان يرى قدمي وهي تتحرك أثناء السباحة فيحسبهما زعانف سمكة القرش التي توشك أن تلتقمنا.. فتملكتني ضحكة مكظومة يلجمها ماء البحر، ويحاصرها الكرب من كل مكان.. ولكن عادت إليَّ السكينة بفضل الله.. وهوّن الله عليّ الموقف.. فواصلت السباحة في نشاط وقوّة وإصرار.. واستعصمت بالله.. واجتهدت في المناجاة.. ومع مرور كل هذه الساعات من الليل شعرت بأني أحرزت تقدماً جيداً في الاقتراب من ذلك المعلم ، وأما صاحبي أنس فهو يصحو وينام وقد بلغ به التعب مبلغه .. والله يعلم في تلك الساعة ما كنتُ أعاني من الإرهاق المبرّح والعطش الشديد، ولكني لم أكن أفكر بالاستسلام ما دمت قادراً على العطاء.. وما دام لي عين تطرف وقلبٌ يخفق..


يا من يرى ما في الضمير ويسمع **** أنت المعد لكـل مـا يتـوقـع

يا من يرجى للشـدائد كـلـهـا **** يا من إليه المشتكى والمـفـزع

يا من خزائن رزقه في قول كن **** أمنن فإن الخير عندك أجـمـع

مالي سوى فقري إلـيك وسـيلة **** فبالافتقار إليك فـقـري أدفـع

مالي سوى قرعي لبابـك حـيلة **** فلئن رددت فـأي بـاب أقـرع

ومن الذي أدعو وأهتف باسـمـه **** إن كان فضلك عن فقيرك يمنع

حاشا لجودك أن تقنط عـاصـياً **** الفضل أجزل والمواهب أوسـع

إن الأسباب لا تفعلُ شيئا بذاتها وإن اجتمعت.. وإنما يتحقق نفعها إذا أراد الله الحيُّ القيّوم سبحانه وتعالى.. فلا يُغني حذرٌ من قدر.. ولكن الأخذ بالأسباب والتوكل على رب الأسباب هما ركنا النجاة بإذن الله.. فكم من سبّاح خبير غرق في شبر ماء.. وكم من رحّال مجرّب تاه في الصحراء ومات من العطش.. وأعرف شخصاً سباحاً وصياداً ماهراً ذهب في أحد الليالي بقاربه داخل البحر من أجل الصيد وقد ابتعد بعيداً كعادته عن الشاطئ ، وحيث أنه كان لا يغيب عن بيته أكثر من يوم وليلة فقد افتقده أهله بعد أن غاب ثلاث أيام بلياليهن وقاموا بإبلاغ حرس الحدود، والذي اجتهد في البحث عنه لكنهم لم يعثروا عليه إلا بعد أسبوع من فقدانه، بعد أن استدلوا بقاربه الذي وجدوه على وضعه الطبيعي وكان مثبت بمرسى داخل البحر ولم يعثروا على صاحبه إلا بعد بحث مضن، وقد وجدوه ميتاً في ظرف غامض لم يُعرف، فلم يكن القارب منقلب ولم يتعطل.. وقد هلك أحد السباحين في مسبح إحدى جامعاتنا بسبب شدّ عضلي في فخذه أعجزه عن الحركة فوجدوا جثته طافية على سطح الماء.. فسبحان الله مسبب الأسباب ومقدّر الأقدار الفعال لما يريد..

وأذكر أني ذهبت في ليلة بالقارب وحدي ودخلت داخل البحر من أجل الصيد والاسترخاء ولكن لم تكن المسافة بعيدة جداً عن الشاطئ فحصل أن نفذ وقود المحرك ولم يكن وقتها موجود معي أجهزة لاسلكية تربطني بخفر حرس الحدود ، فاضطررت أن أرمي المرسى في البحر ، وبدأت بالسباحة نحو الشاطئ وعندما قطعت من الوقت تقريباً ثلث ساعة تذكرت أنه يوجد جالون فيه وقود في أحد صناديق القارب ، وكنت متيقن من وجود الجالون ، ولكن لست متأكداً من وجود الوقود وهذا مما جعلني أحتار كثيراً .. هل أعود إلى القارب للتأكد من وجود الوقود ؟؟ أم أستمر في سباحتي نحو الشاطئ ، وبعد تردد رأيت أني إلى القارب أقرب من الشاطئ مع أني سبحت مسافة لا تقل عن ثلث ساعة ، لكني وجدت أن الفارق كبير بين المواصلة إلى الشاطئ أو العودة إلى القارب ، وقد تستغرب أيها القارئ لماذا لم أتأكد من وجود الوقود قبل أن ابدأ السباحة إلى الشاطئ ؟!!!!! فسبحان من أعمى قلبي فلم يخطر على بالي إطلاقاً وقتها أنه كان يوجد جالون الوقود ، وعندما عدتُ إلى القارب وفتحت الصندوق فإذا بالجالون مليء بالوقود فقلت : سبحان الله .. والحمد لله ..!!! ، علماً أنه لست أنا من قام بملء الجالون بالوقود بل كان أحد زملائي .. ولهذا قد تكون وسائل النجاة قريبة منك ولكن لا تصل لها لأي سبب.. ولهذا فإن الأسباب الماديّة تفتقر لتأثيرها إلا إذا أراد المُسبّب سبحانه وتعالى أن تعمل..

ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسافر الشخص وحده ، لأنه لا يعلم ما الذي سيحدث له من ظرف طارئ مثل مرض أو غيبوبة أو ظرف مفاجئ ، فقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :

( الراكب شيطان ، والراكبان شيطانان ، والثلاثة ركب) .

ولقد كان من أعظم ما رافقني في تلك الظلمات هو الذكر والدعاء، وهي العبادة الرفيع شأنها الخفيف حملها، العظيم فضلها، الكبير أثرها، فبها تطمئن القلوب، وبها تُطرد الشياطين، وتحضر الملائكة، ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ) ..

أما صاحبي أنس الصغير فلا حراك.. ولا أدري هل دخل في نوم عميق أم في غيبوبة تامة!! وفي اللحظة التي لا أزال أصارع فيها الأمواج، وأخطو نحو الشاطئ بمجاديف الإعياء والتعب والظمأ، ينكشف ستار الليل بأنوار الفجر الأول، ويتسلل إلى سمعي صوت الأذان لصلاة الفجر من يوم الجمعة "الله أكبر" "الله أكبر" "أشهد أن لا إله إلا الله".. كلمات هزّت كياني، وحركت أشجاني، فكأنها تمد يديها لي لتنتشلني من لجة الموت إلى ضفة الحياة.. كلمات جعلتني أستصغر هيبة البحر وغضبة البحر أمام كبرياء الله وعظمة الله، فالله أكبر من كل جبروت، والله أكبر من كل قوّة، والله أكبر من كل مخلوق، والله أكبر من كل تحدي، كلمات أسبلت معها دموعي، واهتز صدري بالنشيج المزلزل، واندفقّت من صدري تسبيحة عميقة من بين أنقاض الهمّ والوصب، لقد بدأت معالم الشاطئ تتمثّل لي، وبدأت أرى معها أملي الذي ساهرني طوال الليل حيّاً قريباً في صورة فجر مشرق ويوم جديد، توضأت وصليت، واستدار فكري إلى الخلف أحاولُ أن أتخيّل حال صاحبي في عُمق البحر، ما حالُه؟ ما مصيره؟ أحيٌّ فأرجوه؟! أم ميّت فأدعو له؟! كيف أمضى ليلته؟!

ومع بزوغ الشمس اقتربت من الشاطئ .. وأدركتُ أني على وشك النجاة.. أصبحت أردد : الله أكبر .. الله أكبر .. لك الحمد إلهي .. لك الشكر ربي .. لك الثناء.. لك الفضل من قبلُ ومن بعد.. ،واقتربت قليلاً قليلا.. وشعرت بطرف قدمي تلمس باطن البحر.. سبحت لدقائق.. مددت يديّ لألمس الأرض في المياه الضحلة.. يا الله ما أعظمها من فرحه، إنها فرحة النجاة.. فرحة السلامة.. فرحة تعجز أمامها الكلمات.. وتتضاءل أمامها الأوصاف.. فرحة لا ينغصّها إلا ذكرى رفيقي الذي خلّفته ورائي.. حاولت أن أقف.. فخانتني رجلاي.. ولم أستطع الوقوف.. فأكملتُ المسافة زحفا على يديّ وركبتيّ.. وأنس مستلقٍ على كتفيّ.. وخرجتُ من البحر إلى الشاطئ الرمليّ فألقيتُ بجسدي المُنهك مستلقيا على ظهري.. وقد كتب الله النجاة لي ولأنس المنقطع بأعجوبة بعد سباحة طويلة امتدت من بعد صلاة عصر يوم الخميس إلى طلوع الشمس من يوم الجمعة .

لقد تبيّن لي بأن ذلك المعلم ما هو إلا برج حديدي في سكن لعمال إحدى الشركات التي تقع بين الطريق الذي يربط شاطئ نصف القمر ومنطقة العقير وهو ميناء الأحساء القديم.. ولقد حُدت عنه بفعل الموج وأصبح بيني وبينه مسافة يستحيل لمن في وضعي قطعها.. إنها منطقة مهجورة.. بعيدة عن الأنظار.. نائية عن حركة المسافرين وجلوس المتنزهين.. والوقت صباح يوم الجمعة، وهو وقت تقلُّ فيه حركة الناس.. لقد أدركت حينها بأن المعاناة لم تنته بعد، وأنه لابد لي أن أقضي فترة طويلة لأستعيد فيها قواي أو أن تبدأ حركة الناس ليزيد احتمال وصول من يسعفنا.. وما هي إلا لحظات فإذا بي أسمع صوت سيارة مسرعة قادمة إلينا.. لينزل منها سائقها وهو ينظر إلينا باستغراب ودهشة متسائلا: ما الذي جاء بكم إلى هذا المكان؟ قلت له: كنا غرقى من عصر أمس الخميس... فبكى من شدة الفرح وردد كلمات كثيرة فيها الحمد والشكر لله على نجاتنا، بعد ذلك قام صاحب بحملنا بكل مشقة حتى أركبنا السيارة.. وهو متعجب مما حدث لنا.. وذكر لنا بأنه ظننا من دواب البحر ولم يكن يتوقعنا من البشر حين رآنا من بعيد نزحف من البحر نحو الشاطئ .

لقد سخر الله لنا هذا الرجل ليساعدنا ونحن أحوج ما نكون إلى يد تساند وشربة ماء تسدُّ الرمق بعد أن أخذ منا العناء والظمأ والجوع كل مأخذ.. وقد أخبرنا بأنه يأتي لهذا المكان في الأسبوع مرة أو مرتين.. وهو يمارس هواية الصيد باستخدام الأقفاص وهي ما يُسمى عند أهل المنطقة الشرقية بـ ( القراقير ) وهو عبارة عن شبك مصنوع من السلك الحديدي وله فتحة على شكلٍ حلزوني، حيث يضع الصياد فيه طعاما ليكون طُعما لأسماك..

ذهب بنا السائق المنقذ إلى مركز خفر حرس الحدود بعد أن مشى بناء مسافة طويلة، وعند وصولنا وجدناهم في حصتهم الصباحيّة في استعراض عسكري، فاستأذن السائق من بوابة المركز وأدخلونا إلى غرفة الإسعاف.. وأحضروا لنا الماء.. فلا تسأل عن مذاقه بعد طول العناء.. وقاموا بتغسيلنا، ثم وضعوا لي وللطفل المغذي، وحضر لنا مسرعاً في أقل من دقائق قائد المركز ومعه بعض الجنود.. وكان رجلاً طيباً خلوقاً، تفاعل معنا بشكل كبير وقد أخبرناه بالخبر.. وطلبنا منه أن يفعل ما في وسعه لإنقاذ صاحبي، فأصدر أمراً على الفور لجميع الدوريات البحرية وما حولها من الدوريات الموجودة داخل البحر بالتحرك فوراً للبحث عن صاحبي.. وأمر القائد الدوريات أن تتفرق إلى عدة مجموعات تنطلق في أكثر من موقع نظراً لعدم قدرتي على تحديد موقعنا السابق، وقد اقترحت أن أشارك في عملية البحث غير أنهم أشاروا علي بالبقاء نظرا لمعاناتي من الإجهاد، و قد رجّح عدم مشاركتي إيثاري البقاء إلى جانب الصغير أنس.. وجلس القائد يسليني ويحاول أن يخفف عني المصاب لما رأى علي من الخوف والقلق على مصير صاحبي أبي أنس، وبعد أن تعرف على اسمه وشخصيته عرفه جيداً وبدأ عليه القلق مثلي، وقرأت في عينيه الخوف بأن صاحبي لن ينجو عندما علم أنه لا يجيد السباحة، ورأى استحالة صموده كل هذا الوقت، وقد أخبرني القائد على ذمته بأنه قبل أن يستيقظ لصلاة الفجر ليوم الجمعة سمع في المنام منادياً يقول له: قم .. فهناك بعض الغرقى في البحر أذهب فتول أمرهم .. ويقول: لقد نهضتُ مفزوعاً من هذا الحلم مع أذان الفجر وقلت أن هذا من الشيطان ..!! .

ولقد كان القائد يتابع جهود البحث والتحري مع الفرق المتحركة.. و دبَّ اليأسُ إلى أعضائها وكادوا يجمعون على أن صاحبي لا يوجد له أثر.. وأوصوا باستدعاء فرقة الضفادع البشرية للغوص والبحث عن جثته.. ولكنّي بيّنت للقائد بأن صاحبي كان متعلقاً بجالون وسترة نجاة، فإن جزمنا أنه قد مات فأين هي السترة والجالون الذي كان يمسك بهما؟!! فقال لي مباشرة: صدقت.. هذه علامة مؤكدة.. فتحدث بالجهاز اللاسلكي لجميع الدوريات البحرية بأنه لا عودة إلى المركز إلاّ ومعهم صاحبنا حياً أو ميتاً أو بإحضار الجالون والسترة التي كان يمسك بهما.. اقترحت على أنس أن نذهب نبحث في البحر فبكى خوفا من هذا الاقتراح وقد عانى من البحر ما عانى.. وذكرني بقول ابن الرومي في وصف البحر:


وأما بلاء البحر عندي فإنه ** طواني على روع مع الروح واقب

فأيسر إشفاقي من الماء أنني ** أمر به في الكوز مر المجانب

وأخشى الردى منه على كل شارب ** فكيف بأمْنيِه على كل راكب

وأثناء ما كنا نتحرى هذه الاتصالات التي تأتي من فرق الدوريات وبعد بحث وجهد من قبل الدوريات البحرية جاءنا البشير عن طريق الجهاز اللاسلكي أن صاحبنا قد تم العثور عليه وهو ممسك بطوق النجاة وبالجالون الذي كان يحمله فكان أحسن وأسعد خبر تلقيته في حياتي فتذكرت على الفور قول الله تعالى : ( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ{87} فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ{88} نعم فإنه يوجد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من سينجيه الله بصورة عجيبة مثل نجاة صاحبي الذي نجا وهو لا يجيد السباحة إطلاقاً، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .. وقد أخبرني بعض من قاموا بإنقاذه أنهم عندما رأوه ظنوه ميتاً لأنه لا يتحرك وكان على نفس الوضع الذي تركته عليه نائم على ظهره وممسكاً بطوق النجاة بيد والجالون باليد الأخرى ..

خرجت أنا والقائد وبعض الموجودين في استقبال الشيخ الجليل، وكان أول ما سأل عنه صاحبي عند نزوله إلى أرض الشاطئ عن اتجاه القبلة وخر لله ساجداً لله وشاكراً لفضله.. وكنت قد نسيت سجود الشكر ولم يخطر على بالي هذا الأمر وعندما رأيت صاحبي سجدت معه حامداً الله سبحانه وتعالى على فضله وكرمه وإحسانه.. ثم عانقته أنا ومن حضر هذا الموقف المؤثر، وسلم على ابنه أنس.. فلله ما أروع مشهد اللقاء بعد الفراق المرّ.. ولله ما أجمل احتضانه لابنه الصغير وفرحته بسلامته.. ولله ما أقرّ عيني بأن جمع الله بينهما بعد أن كدت أتسبب في كارثة كبيرة لهذه العائلة الكريمة.. إنها فرحة مُشعلَةً بالدموع.. مُلفّعة بمشاعر الحبّ.. محاطة بأحاسيس الشكر والحمد لله عزّ وجلّ..


وقد يجمع الله الشتيتين بعدما ** يظنان كل الظن ألاّ تلاقيا

إذا اكتحلت عيني بعينك لم تزل ** بخير وجلت غُمة عن فؤاديا

أوصلتنا دوريات حرس الحدود إلى سيارتي في مدينة الملك فهد الساحلية في الشاطئ الآخر.. وركبت أنا وصاحبي وابنه أنس وكان الحديث ذو شجون.. وتعجّب من هذه الرحلة الخطرة.. وقمت بإيصال صاحبي وابنه انس إلى منزله.. وكان حضوره مفاجأة لأقاربه وأصدقائه.. وجماعة مسجده.. والذين قضوا ليلتهم بحثا عنهُ في كل مكان ولم يعثروا له على أثر.. وأما أنا فلم يفقدني أحد لأني كنت أعزب وأغيب عن البيت بالأيام وهو أمر معتاد في منزل والدي .

وصلت إلى المنزل مع وقت خروج والدي حفظه الله ، حيث كان يخرج مبكراً إلى صلاة الجمعة ، ورآني أثناء خروجه من المنزل وأنا بلباس البحر ، فبادرته بالسلام وطفقت أشرح له القصة في حماس لأقدم له المفاجأة التي حدثت لي في البحر.. فانتهرني بشدة متسائلا كيف أكون في مثل هذا الوقت قادماً من البحر وأنا ارتدي الملابس الرياضية وداخل إلى المنزل والناس ذاهبون إلى أداء صلاة الجمعة.. فأردت أن أشرح له ما حدث.. ولكنه تركني وقطع علي طريق الحديث.. صليت الجمعة ودخلت بعدها في نوم عميق بعد يوم وليلة من السهر والخوف والجوع والظمأ.. وسجلت قصتنا في محاضرة مسجلة للشيخ سلمان العودة وكان عنوانها ( فقه إنكار المنكر ).. مجيبا على سؤال عن صحة الأنباء التي تتحدث عن وفاة صاحبي أبي أنس وأنه قد مات غرقاً في البحر فكان جواب الشيخ أنه لا صحة لهذه الأنباء ، وأنه لا يعلم إن كان هناك أخبار جديدة غير ما سمعه.. ثم ذكر أن الذي يعرفه أنه قد تعرض لحادث في البحر هو وابنه أنس ومعهم شخص آخر وقد نجوا بأعجوبة ثم ذكر القصة مختصرة ..

وأذكر أن صاحبي سأل فيها الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله عن وضوئنا في البحر إذا لم يغمر الماء وجوهنا فقال له الشيخ: لا عليكم حرج ووضوؤكم صحيح ( فاتقوا الله ما استطعتم ) ..

هذه هي قصتنا في البحر على حافة الموت.. بعيدا عن المبالغة والخيال.. وقد أعرضت عن بعض التفاصيل خشية الإطالة..

وكلما خطرت ببالي تساءلت هل صحيح أني نجوت من تلك المحنة الكبرى؟! وهل صحيحٌ أنَّ صاحبيّ الآن ينعمان بفسحة العُمر مثلي؟!! هل صحيحٌ أن ذلك الطفل الصغير (3سنوات) الذي رافقني في رحلة السباحة الطويلة أصبح اليوم رجلا يساند أبويه ويقوم بواجبه لخدمة دينه ومجتمعه؟!!

أسأل الله أن يجعل تلك الزيادة في أعمارنا زيادة خير وبركة وبر وإحسان.. وأن يرزقنا شكر نعمته.. وحسن عبادته..

انتهى..

أبو لـُجين إبراهيم

ابو اسامه
06-06-2014, 03:04 PM
قصة عجيبة ورائعة بين أمواج البحر المتلاطم


قصة عجيبة في أمواج البحر المتلاطم .. ولا أجامل إن قلت أنها أعجب من قصة أبو لجين : " رهائن البحر " .
قصة أعجب من العجب ، حدثت لأخينا الدكتور حسام عبد السلام جمعة (عضو هيئة التدريس بجامعة الملك عبد العزيز بجدة) ، وهو يناجي بارئه في غياهب الخضم وظلماته ، نوردها نقلا علها تصيب ما تصيب من أولي الألباب ، قصة فيها من العبر والمواعظ ما يعجز عن ضربه في الطويل من الدهور . فضلا طالعها ففيها خير عميم وإجابات لكثير من عسير السؤال .
( كُـتـبـت هذه القصة بعد 3 أشهرمن حدوثها ) ..
يقول صاحب القصة : لقد اعتدت مع صديقين لي أن نذهب للغوص والصيد مرتين في الشهر وفى هذا اليوم أنهيت عملي متأخرا وخشيت أن أؤخر صديقيَ ولكنهما انتظراني ، أما الصديق الأول (طلعت مدني) فقد اعتدت الذهاب معه منذ عام 1994 م أما صديقي الأخر فاسمه Manningفلبيني الجنسية وقد أسلم قبل عام وسمى نفسه ( يوسف ) وخرجنا للبحر كعادتنا وسجلنا في مكتب حرس الحدود في أبحر وقت عودتنا كما توقعناها آن ذاك الساعة 07:00 من مساء نفس اليوم ، واتجهنا بالقارب إلى منطقه تسمى (( الوسطاني )) وهي حوالي 20 كم غرب جدة . ووصلنا الساعة 12:30 بعد منتصف النهار وأنزلنا المرساة الأولى ولكنها لم تثبت بسبب الأمواج إلا بعد عدة محاولات ووضعنا مرساة أخرى إضافية زيادة في الحرص حيث كان لي قبل عدة سنوات تجربه قاسيه انفصل فيها القارب عن المرساة ولكنني استطعت بفضل الله أن أصل إليه بعد 5 ساعات من السباحة المتواصلة .
تأكدنا من تثبيت المرساتين ونزلنا ثلاثتنا للغوص وكان هذا خطأ إذ أننا لم نترك واحدا منا على ظهر القارب فقد غلبتنا رغبتنا في أن نكون سويا تحت البحر وألهتنا الثقة الزائدة بالنفس عن أخذ الحيطة نظرًا لخبرتنا الطويلة بالغوص ، كان الموج قويًا ذلك اليوم وكان الصيد وفيرا وبعد 40 دقيقه صعدنا إلى ظهر القارب للراحة .
تأكدنا مرة أخرى من ثبات المرساتين ثم نزلنا للغطسة الثانية 03:30 ظهرًا وكعادتنا طلبنا من أحدنا أن يغوص قريبا من المرساة ..، وبعد 30 دقيقه وجدت أن المرساة مقطوعة فذهب ( طلعت ) للتأكد من المرساة فلم يجدها ولم استطع الصعود لأنني أحتاج إلى دقيقتين لتحقيق تعادل الضغط وعند صعودي رأيت في وجه ( طلعت ) الذعر وهو يصرخ القارب !! الذي صار على بعد 300 متر تقريبًا وقاربنا طوله حوالي 22 مترا فتبادر إلى ذهني تجربتي التي حدثت قبل 5 سنوات وكيف أنني استطعت بعد 5 ساعات من السباحة المتواصلة للوصول إلى القارب وهنا كان خطأي الثاني وخدعتني مرة أخرى ثقتي الزائدة بالنفس ولو أنني استقبلت من أمري ما استدبرت لأدركت في تلك اللحظة أن الأمر اليوم مختلف تماما فقد كان الجو آنذاك أفضل والأمواج اهدأ بل الذي ساهم في لحاقي بالقارب آنذاك أن المرساة المتدلية من القارب اصطدمت بالصخور فأبطأت حركته أما هذه المرة فليس ثمة صخور ولا شعب مرجانية بل بحر مفتوح وأمواج قوية وبدون تفكير وحرصا منى على أن أكسب كل دقيقه ألقيت بستره الغوص الطفوية واسطوانة الهواء والبندقية وانطلقت في اتجاه القارب بأسرع قوة وفى هذه الأثناء مر قارب صيد بيني وبين القارب فصرخت بأعلى صوتي ولكنهم لم يروني أو يسمعوني فأكملت السباحة وكان الوقت 04:00 عصرا ولكن سرعان ما أدركت أن الموج مختلف هذه المرة وبعد سباحة ساعة من الزمن وجدت أن المسافة بيني وبين القارب ثابتة لا تتغير وبعد ساعتين في تمام الساعة السادسة أدركت أن المهمة لن تكون سهله فقد تغير مسار القارب عدة مرات وبدأت المسافة بين وبين القارب تزداد .
لم أفقد الثقة .. لم يكن هناك أي شعب مرجانية أو قطع صخرية فهذه منطقة تخلو من كل ذلك وأقرب منطقة بها شعب مرجانية تسمى “أبو طير” ولكن الموج لن يساعدني في الذهاب إليها كما أن هدفي الأول هو اللحاق بالقارب وبالرغم من أن الشمس بدأت بالغروب والقارب مازال يبتعد إلا أن تجربتي الناجحة السابقة أمدت في حبل ثقتي الزائفة بنفسي فضاعفت قواي لألحق بالقارب …وجن الليل وابتلع الظلام كل أثر للقارب ، وهنا توقفت أنظر ، استرجع وألوم نفسي…
ثلاث أرواح تذهب بسبب خطأ فادح كهذا…
كيف يكون ذلك ؟؟
ما أسخف أن يفقد الإنسان حياته بهذه ألطريقة وأخذت أنظر إلى “جدة” من على بعد وأنا في قلب البحر الأحمر أراها متلألئة مضيئة وكانت معالمها الواضحة ونافورتها أمامي تبعث في نفسي شيئًا من الطمأنينة وهناك في قلب البحر حيث لا يسمــعـني إلا الله ولا يراني إلا الله بدأت أناجي خالقي وأدعو أن يُخرجني من كربي هذا . (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ، أدعوه دعاء يونس عسى الله أن يُخرجني كما أخرج نبيه مما هو أعظم - لا من قلب البحر فحسب بل من قلب الحوت - تذكرت آنذاك أنه قد فاتتني صلاة العصر فتوضأت من ماء البحر وصليت وقرأت المعوذات ولأول مرة في حياتي أجد للوضوء معنى غير المعنى الذي كنت أجده وأنا على اليابسة آمنـًا مطمئنا ، توضأت من ماء البحر ولم يكن وضوء مثل الذي عهدت بل كان بمثابة وقاء ودرع يحوط بي ويحميني من كل ما أخشى وأحاذر أما الأجزاء التي لم يغطيها الوضوء فأخذت أقرأ المعوذات وأنفخ في يديَ وأمسح بهما جسدي وأحرص أن لا أترك جزءا منه بغير درع ووقاية وأكثرت من دعائي .
(بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )
(أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ.. أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ، وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ)
ولا تسألوني كيف لم يباغتني الذعر والخوف آنذاك فأنا نفسي في عجب من ذلك إلا أنها رحمة من الله ولطفه وسكينته التي تنزل على عباده لم يكن هناك خوف بل اعتقاد كامل لاشك فيه أن الله الكريم القوى العزيز سيخرجني من هذه المحنة وأن هذا المنظر المؤنس الذي أراه لمدينة جُـدة من على بعد سيقربه الله لي ويأخذ بيديَ لأصل إليه .
كان لابد لي أن أستمر في السباحة فالموج عال والوقوف يعنى الغرق وليس لدي سترة سباحه تساعدني على الطفو فوق الماء ولأول مرة في حياتي أرى النجوم بهذا الوضوح وأرى القمر بازغـًا مؤنسـًا في تلك الليلة ولأول مرة في حياتي أشعر أنني لا أعدو أن أكون نقطة في بحر لا أختلف كثيرًا عن أي نقطة أخرى ليس لها وزن وبدأت أستعيد يومي وأتساءل عن أصدقائي الاثنين هل تحركوا في اتجاهي بدأت اصرخ لعلهم قريبون منى ولكن لا أحد يجيبني أرى أنوار بعض الصيادين من على بعد ثم تختفي رأيت من على بعد نافورة جدة وبرجـًا ومبنى كبير فقررت السباحة في اتجاه المبنى ولكن بعد ساعات من الجهد وجدت أنني لم أحقق أي تقدم فالمسافة بيني وبين المبنى أراها ثابتة لا تتغير فالمد القوي يعيدني إلى حيث بدأت واتجاه الريح يأخذني نحو الميناء والذي فيه خطر على حياتي نظرا لوجود السفن العملاقة التي حتما ستسحقني إن دخلتُ تلك المنطقة .

دعاء المضطر

وبدأتُ لمناجاة الله بأعلى صوتي والتركيز في الدعاء دعاء المضطر وبدأت أراجع نفسي وأسترجع سنوات عمري واسأل. أغاضب أنت علي يا ربى ؟ ، لا تأخذني بعملي وعاملني بفضلك ولطفك وكرمك إن لم يكن بك علي غضبٌ فلا أبالى العيش أو الموت أصرخ بأعلى صوتي وكأني أملك المكان هو سبحانه وأنا والبحر وأصبحت في سباق مع الزمن كل دقيقه لها وزنها وقدرها فلا أدرى أتكون الدقيقة الأخيرة وهل تكون هذه الدقيقة هي ما بقي لي على الدنيا أستغفر بها ربي وأشتري بها رضاه والحياة الخالدة .
يداي تجدف بكل قواها خشية الغرق وعقلي يسترجع بكل قواه شريط العمر وما قدمتْ يداي ، وقلبي يدعوا بكل قوة ليغسل كـل ما جناه لعلي ألقى الله بقلب سليم وبالرغم من أن الله لم يخذلني من قبل وبالرغم من ثقتي برحمته ولطفه وكرمه إلا أنه بدأ يدخل في نفسي إحساس بأن الموت قد يكون هو ما كتب الله لي في هذه الليلة وبدأت أفقد قواي أصبح احتمال الموت ولقاء الله هو أحلى الاحتمالات بدأت استسلم ورأيت المبنى الكبير يصغر ويصغر وابتلعني الظلام الحالك فقررت أن احتفظ بطاقتي وأحاول الطفو فوق سطح الماء ما استطعت رأيت بعض الصيادين فحاولت الوصول إليهم دون جدوى ورأيت كشافات أملتُ أن يكون حرس الحدود في طريقهم إليَ ولكنهم غيروا اتجاههم فجأة فأصابني الإحباط لا أدري كيف مرت تلك ألليلة بتلك السرعة بدأًًً الليل ينقشعُ فوجدتُ نفسي قد ابتعدتُ كثيرًا عن الشاطئ وبدأتْ أشعـةُ النور تجلى ظلمةُ الليل فصليت الفجر وفى هذا الوقت رأيت من على بُعـدٍ مدخنة التحلية ، والتي كانت هي هدفي للوصول إليها ذلك الصباح ، وفجأة رأيت صيادًا على مرأى مني فأخذتُ أسبحُ إليه بكل قوتي وكلما اقتربت تبين لي أنه يرفعُ المرساة فصرخت بكل صوتي فتوقف كالذي سمع صوتـًا ولكن الموج حال بين عينيه أن تراني واتخذ طريقه في الاتجاه الآخر ولكن وجوده في هذه المنطقة أشعرني بالأمل من أن هذه منطقه يقصدها الصيادون ولابد لي أن أجـدُ أحدًا أخر، وبالفعل رأيتُ صيادًا آخر وكررتُ نفس المحاولة السابقة ولكن مرة أخرى حال الموجُ بيني وبينه وقررت أن استغل يومي بان أسبحَ في اتجاه محطة التحلية حيث كان اتجاه الريح وسبحت لمدة 9 ساعات متتالية حتى توسطتْ الشمسُ قبة السماء وأشعة الشمس تحرق رأسي كأنها نار منصبة عليّ و بدلـة الغوصُ تقطعُ لحمى …
وأنا بين الدعاء والرحمة واللطف وملامة النفس عن الخطأ الفادح الذي أقحمت فيه نفسي إلى هذا الموقف العصيب المهلك وألوم نفسي على إلقائي للسترة التي بها أستطيع أن أطفو.
مرت علي 10 ساعات منذ بدأت السباحة تجاه التحلية وبحمد الله وكرمه أحرزت تقدماً جيداً حتى أصبحت مقابل مدخنة التحلية أرى عمائر الكورنيش ورأيت فـرقـاطـة خاصة بحرس الحدود، بل ورأيت كابينة الفرقاطة من على بُـعـد ولكن حال الموج بيني وبينهم، بل قل ردمني الموج ولم يصل صراخي إلى آذانهم… خلعت زعانفي وحملتها بيدي وأخذت ألـوّح بها وأصرخ بأعلى صوتي ولكن دون فائدة، ورأيت طائرة الدفاع المدني تحلق في الجو ولكنها بعيدة عني ولم أتخيل في تلك اللحظة أنهم جميعاً خرجوا بحثاً عني، أخذت نظارة الغوص أعرضها للشمس لعلهم يروا انعكاس الشمس على زجاجة النظارة ولكن هيهات أن أميز بين أمواج البحر المتلاطمة.
وفقدت الأمل في كل هذه الطرق وأخذت أسابق الزمن لاستغلال ما تبقى من النهار قبل غروب الشمس، وكل حلمي آنذاك أن أصل إلى الشاطئ وأخرج منه وأترجي أحد البائعين أن يسقيني ماء ويطعمني قطعة من البسكويت ، وأبحث عن سيارة أجرة وأطلب من السائق أن يأخذني لبيتي وأعده بأنني سأعوضه عن الضرر الذي سيلحق بمقعد سيارته من جراء بلل الماء. وبدأ العطش يشتد علي وخيل لي أنني قد أجد عبوة ماء ملقاة في البحر من إحدى السفن أو القوارب، وبلغ العطش مني كل مبلغ فشربت بعض الماء المالح، وتذكرت آنذاك نصيحة الأطباء لي بالإكثار من شرب الماء حتى لا تتأثر حصوة الكلى عندي مرة أخرى ، وتذكرت ألم حصوة الكلى الذي باغتني قبل (3) أسابيع واحتجت لتخفيف الألم أن آخذ أشد أنواع المسكنات، فدعوت الله أن يلطف بي فيصرف عني ألم حصوة الكلى لعلمي ويقيني أن الألم الذي أصابني قبل بضع أسابيع لو باغتني الآن فإنه يعني حتماً الموت.

الأمل يتضاعف

أخذت أضاعف مجهودي للوصول إلى الشاطئ وفجأة تحول اتجاه الرياح فاستخرت الله .
( اللهم إني أستخيرك بعلمك أستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن في هذا الأمر وهو توجهي لهذا المبنى الشامخ على طريق الكورنيش الذي أراه من على بعد خيرا لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه )
وفجأة أصبح اتجاه الرياح إلى التحلية وأصبحت العمارة بجانبي بعد أن كانت أمامي وبدأت شمس يوم الجمعة بالغروب، وجن الليل وأظلمت الدنيا مرة أخرى من حولي، قربت من التحلية وسمعت أذان المغرب فكان للأذان معنى غير المعنى الذي عرفته طوال حياتي، بل وكأني أسمعه لأول مرة في حياتي :
“الله أكبر.. الله أكبر…”
أمل كبير برب كبير أكبر من كل محنة وكرب وكان هذا الأذان أول صوت بشر أسمعه على مدى أربع وعشرين ساعة فكان بمثابة بشرى من رب كريم أنه سينجيني بلطفه من هذا الكرب. وتوضأت وصليت المغرب وأكملت مسيرتي نحو التحلية المضيئة أمامي ، ومرة أخرى تغير اتجاه الرياح ودفعني نحو البحر فذهب كل جهودي للوصول إلى التحلية أدراج الرياح فأصابني الإحباط، وعلمت بعد ذلك أن الله لطف بي أن لم أقترب أكثر من التحلية نظراً لوجود شفاطات ضخمة لم أكن لأفلت منها لو أنني اقتربت من الشاطئ ولكان موتاً محققاً.
وهنا باغتني الشيطان لأول مرة بكل قواه كأني أسمعه يحدثني بصوت عال في عرض البحر ويقول لي “لقد خذلك ربك، يريد الله أن يذلك، ويلعب بك وستموت بعد ذلك لا محالة” سمعت صوت الشيطان مستهزئاً ساخراً، والعجيب في الأمر أن الصوت لم يكن من داخلي ولكنه صوت كأنه آت من الخارج أنظر حولي فلا أرى إلا الأمواج والبحر ولا أسمع إلا تلاطم الأمواج وهذا الصوت الساخر المستهزئ.
بادرت مرة أخرى بالوضوء وقاية وأمناً وحماية، ودعوت الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وقرأت المعوذات ونفخت في يدي ومسحت كل جزء من جسدي، وأصرخ بأعلى صوتي حتى يرتفع صوتي عن صوت الشيطان الساخر وأقول:“يا معين أعني، يا مغيث أغثني”
وأصلي على سيد الخلق أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم بأعلى صوتي لعل الله يحن علي بصلاتي على أحب خلقه إليه "صاحب شفاعة اليوم الأعظم"، وهنا سمعت أذان العشاء ومرة أخرى كان للأذان في نفسي أعمال هي من أعمال الآخرة وسكينة وطمأنينة وبشرى وأمل.
ولو أنني سئلت أي الاثنين أشد عذاباً وتنكيلاً بي أهي الشمس الضارية الحارقة تسلخ جلدي بسياط لهيبها وتحرق جسدي بألسنة نيرانها ، أم البرد القارس المؤلم الذي يفتت العظم ويمزق الجسد من الألم في منتصف الليل والقشعريرة والرجفة التي تصاحبها كل ليلة لما استعطت أن أجيب!
وكل الذي حال بيني وبين الموت من البرد في الليلتين هو أحقر من أن أذكره في قصتي هذه ولكني استحضرت فيه معنى العبودية والضعف الكامل لله. هل يمكن أن يصدق أن الذي حال بيني وبين الموت من البرد هي قطرات البول الساخنة الذي حرصت أن احتبسها في النهار وأبقيها ليلاً عندما تشتد علي القشعريرة وأخشى أن تنخفض درجة حرارتي “Hypothermia” فتكون هذه القطرات في داخل بدلة الغوص قطرات الحياة الدافئة.
ما أضعفك يا ابن أدم وما أجرأك على خالقك وأنت من أنت وهو سبحانه من هو.. “يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ”.
أخذ مني الإرهاق كل مأخذ ووصلت إلى نقطة الاستسلام. اشتدت علي القشعريرة فدعوت الله أن يخلصني من هذا الكابوس وناجيت ربي أسأله يا رب لم يعد لي من قوة فقد يكون من الأفضل أن تأخذني إليك برحمتك. تذكرت والدي وزوجتي وبناتي الثلاث ودعوت لهم فإني أعلم أنهم ليسوا ممن يقدر على تحمل مثل هذا الامتحان.
وأحسست براحة عميقة فكنت أخشى أن أنجو ثم أعلم بأن أصدقائي لم ينجوا فألوم نفسي. كيف أنجوا ويهلكون؟ واستحضرت معنى أن الغريق في الجنة فأصبحت أرى نعيم الجنة في الموت وأعيش جحيم الماء في الحياة الذي أصبح أشبه ما يكون بماء نار مسكوب على وأصرخ بأعلى صوتي من الألم وقد كثرت جروحي وآلامي.
نظرت نظرة أخيرة فوجدت نفسي أبتعد أكثر فأكثر عن اليابسة وعلمت أن البحر يبتلعني. استجمعت شتات فكري وأمري واستحضرت معنى الشهادة واستشهدت وأسلمت نفسي لله وأغمضت عيني واجتهدت في استقبال القبلة وودعت كل ما في الدنيا من ذكريات وآلام وأفراح وأتراح واستقبلت ربي أدعوه أن يكتب لي الجنة وأن يكون ماء البحر قد غسل ذنوبي كلها وحمدت الله على هذه الميتة وأنني لم أمت موت الفجاءة حيث لا وقت للمراجعة والاستغفار.
تخيلت نفسي أشرب ماء البحر وأن الكرة الأرضية تنشق من تحتي وأنا أنزل فيها وبدأت في النزول وفجأة ناداني صوت صارخ “إنما هي شعرة بين حفظ النفس والانتحار وفيها مصيرك إلى جنة أو إلى نار” إنك تنتحر”. فدفعت نفسي ثانية بكل ما تبقى لي من قوة وبدأت أسبح مرة أخرى ولكن قواي ما لبثت أن خانتني ثانية والقشعريرة استنزفت ما بقي لدي من قوة وأجد صعوبة في التنفس فعلمت أنها علامة ما قبل الموت. وبدأت أغوص وفجأة موجة قوية ترفعني إلى السطح فأخذت نفساً عميقاً بما تبقى لي من قوة فاستشعرت يد الله تحملني وترفعني ونسمة هواء عجيبة كأنها ملئت بروح السماء وأنظر حولي فأرى أربعة أو خمسة دلافين “Dolphins” يطوفون بي في هذا الليل المظلم يصدرون تلك الأصوات الجميلة والتي طالما ظننتها صورة من صور تسبيحهم لخالقهم فأدركت أنها علامات الحياة يرسلها الله لي ليعلمني أنه سبحانه منجيني ولو بعد حين.
موج يرفعني ويحول بيني وبين البحر أن يبلعني ونسمة هواء معبأة بروح السماء تملأ رئتي وجسدي بالحياة. ومجموعة دلافين تطوف وتسبح بحمد ربها بلغة لا نفقهها. أنزل الله علي السكينة مرة أخرى وبدأت أفكر مرة أخرى بالنجاة. رأيت السفن من على بعد طوابير ينتظرون دخول الميناء وهم كقطع من المدن، قررت السباحة تجاههم بالرغم من علمي بخطورة ذلك ولكن ليس لي من خيار وبعض هذه السفن راسية ومحركاتها العملاقة مغلقة لعلى أصل إلى أحداها ولا أسحق بمحركاتها توجهت إلى أصغرها واستطعت الاقتراب وأخذت أصرخ بأعلى صوتي باللغتين لعل أحداً يسمعني ومازلت في الثلث الأخير من الليل ولكن دون فائدة. ألهمني الله أن أضع أحد زعنفي تحت رأسي لأريح قدمي ولأستند على الزعنف لثوان قليلة فوجدت أن الموج يرفعني عندما أضع الزعنف تحت وجهي وأتخذه كوسادة وأغفو لثوان قليلة قبل أن يلطمني الموج ويوقظني.
وألهمني الله في تلك الآونة أن أدعوه بقوله تعالى : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) ..ولم أعلم آنذاك أن كلمة “الْمُضْطَرَّ” لم ُتذكر في القرآن الكريم إلا مرة واحدة في هذه الآية الثانية والستين من سورة النمل.
وبينما أنا أصارع الموت في الثلث الأخير من الليل بما تبقى لي من قوة وأصّبر نفسي وأقرأ هذه الآية إذا بخبطة قوية تأتين من الخلف فوضعت نظارة الغوص فرأيت سمكة قرش من نوع “White Tip” ولي في أنواع القروش علم ودراية.
وكأنه يقول لي ماذا تفعل هنا أو أنه يدرسني وهذه من عادات القرش فبصره ضعيف ويعتمد على جسده في تحديد ماهية فريسته ووزنها ونوعها وتحليلاً للجسم بل طعمه وجنسه. وفجأة تبدد التعب والعطش وعادت لي قوتي أحسست بهرمون الإدرنالين “AdrenalineRush” كأنما ينسكب في دمي سكباً ليعيد لي الحياة والقوة للحفاظ عليها، وعلمت بعد ذلك دور هرمون الإدرينالين الذي يفرز من غدتي الكظر “وهما الغدتان المتواجدتان فوق الكليتين” تحت أي ضغط أو توتر وهذا الهرمون يساعد على بدء مجموعة من التفاعلات الحيوية التي خلقت من أجل مساعدة الجسم على التعامل مع الأزمة والتكيف معها. ففي البداية من هذه التفاعلات يفرز الكبد السكر في الدم للإمداد ببعض الطاقة حتى يستعد الجسم للهجوم أو الهرب، وعندئذ يكون التنفس أسرع حتى يمد الجسم بالمزيد من الأكسجين ثم يزداد معدل ضربات القلب حتى تضخ الدم بصورة أكبر لكي تحمل السكر الزائد والأكسجين إلى المخ والعضلات، كما يؤدي إفراز الإدرينالين إلى تأثيرات عديدة على الجسم، أهمها يزيد من قوة انقباض العضلة القلبية ويزيد من سرعة نظم القلب مما يؤدي إلى زيادة ملحوظة في النتاج القلبي، كذلك يؤدي إفراز الإدرينالين إلى انقباض الأوعية الدموية المحيطية وتحويل سريان الدم من الجلد والأحشاء إلى العضلات الهيكلية والدماغ. فكانت تلك الضربة القوية هي أكثر ما أحتاج إليه لمواصلة المقاومة وعدم الاستسلام ولكني ضحكت في نفسي وناجيت ربي “يا رب أهذا الذي ينقصني؟” ..أدعوك ربي أن تنجيني . فترسل لي قرشاً؟ أستجديك ربي بإلوهيتك وربوبيتك أن أردت أن تأخذني إليك فخذني قطعة واحدة لا في فم هذا القرش ممزقاً أشلاء، لم أر في حياتي قرشاً بهذا القرب وبدأ يحوم حولي فأخذت أحوم حول نفسي لأتأكد من نوعه فتيقنت أنه “White Tip” وهذا النوع من القروش قوي وذكي بل وعنده قدرة الصعود فوق الشعب المرجانية في حالة تعبه لفريسته، وقد رأيت مثله من قبل وإن لم يكن بذلك الحجم في رحلة صيد وكنت أحمل سمكاً قد صدته فهاجم صيدي فألقيت له بالصيد كاملاً بما فيها بندقية الصيد لأفدي بها نفسي ..دعوت ربي أن يسخر لي هذا الوحش وأكثرت من الدعاء “أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ” “بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ” واستمر القرش يحوم حولي وحجمه أكبر مني بكثير وقدرت طوله حوالي (3) أمتار، وازداد دعائي وتذللي إلى الله الذي يقول للشيء كن فيكون، والعجيب في الأمر أن الله ألهمني أن أدعوه بأن يسخر لي هذا الوحش الفتاك ولم يلهمني أن أدعوه بصرفه عني. مرت ثلاث ساعات ومازال القرش يحوم حولي فتيقنت آنذاك أنه لم يؤمر بأن يفتك بي وإلا لفعل ذلك منذ ساعات فاطمأننت، بدأ فجر يوم السبت ينشق، توضأت لصلاة الفجر وأحسست مرة أخرى بقوة الوقاية والحماية والتحصين والدرع الذي يحيط بي بوضوئي هذا وصليت الفجر وأنا أحاذر من هذا القرش وأدعو الله أن يسخره لخدمتي ويقيني شر هذا البحر وينجيني منه.

ماذا يريد القرش؟!

بعد الصلاة فوجئت بالقرش يقترب مني أكثر ويحوم حولي وكأنه يريد الهجوم عندئذ أدركت أنه إن هجم علي فأنا هالك لا محالة وعسى لو رأى مني محاولة للرد أن يعدل عن رأيه فجمعت كل ما تبقى لي من قوة. وقررت أن ألقي بجسدي كله عليه إن اقترب مني لعله يظن أن بي قوة ففعلت وارتطمت به فغاص إلى الأعماق ثم عاد مرة أخرى إلى السطح كأنه يقول لي: "يا عبد الله لم أرد إيذاءك أو قتلك أو أكلك فلم يؤذن لي أن أفعل ولو أ ُذن لي لما رأيتني إلا وقد سلبت قطعة من جسدك وأنت لا تشعر"!
وعاد يحوم حولي ببطء كأنه يعلمني أنه موكل بمرافقتي في رحلتي هذه.
فأصبح بعد ذلك بالنسبة لي بمثابة سمكة عادية تحوم حولي تؤنس وحشتي ، وعندما أضاءت الدنيا أصبح بمقدوري أن أتيقن بما لاشك فيه أن القرش هو من الفصيلة التي ذكرت آنفاً وأنه لا يريد الفتك بي بإذن خالقه فأصبح القرش أنيسي بعد أن كان همي ومصدر قلقي وخوفي .
أخذت اقترب من السفن ونسيت الآلام والعطش وقد غمرتني فرحة النجاة من القرش والاقتراب من السفن . وفي هذه الآونة سمعت صوت محرك (حوامة حرس الحدود) توقعت أنهم لن يروني كما حدث قبل ذلك طوال الأربعين ساعة الماضية ولكنهم كانوا يقصدونني واقتربوا مني فخلعت زعانفي ورفعتها كما فعلت في محاولاتي السابقة لجلب الانتباه إلي، وصاح أحدهم : أأنت الدكتور حسام جمعة ؟
فأجبت “بنعم” فقال “أبشر لقد نجوت”.
حاولوا رفعي أولاً من يدي فسقطت من آلامي ثم ألقوا إلي سلماً وصعدت الحوامة ولم أستطع الوقوف ولكني سجدت لله طويلاً فقال أحدهم أتركوه يسجد لله وباغتني النوم وأنا ساجد لله.
وقيل لي بعد ذلك أنني لو تابعت سباحتي في اتجاه السفن الضخمة لفتكت بي القروش هناك حيث إنها منطقة تلقي فيها المواشي المريضة تسمى “بحر المواشي” قبل أن تصل إلى الميناء وتكثر فيها القروش ولما بقي مني قطعة واحدة ليتعرفوا بها علي.
وذهبوا بي إلى مركز الحوامات وقدم لي سكبة من الماء لم أذق في حياتي أطعم من مذاقها كأنها سكبت ماء الجنة.
وكان اسم الحوامة “زفاف” وبالفعل كان يوم زفافي مرة أخرى للدنيا ، وكانت فرحة منقذي بي من سلاح الحدود غير معقولة وكأنما زفت لهم حياتهم كذلك من جديد، وعلمت بعد ذلك أن المسافة التي قطعتها في 40ساعة حوالي 50 كيلو متراً أي تقريباً المسافة من جدة إلى نقطة تفتيش الشميسي القريبة من مكة المكرمة. أما بالنسبة لأصدقائي “طلعت مدني”، و”يوسف” فقد علمت أنه تم العثور عليهم من قبل متطوعين “فريق/ محمد دباغ” يوم الجمعة في السابعة صباحاً فحمدا لله على نجاتهم، وعلمت أن كل بيوت جدة كانت تدعو لنجاتي ممن أعرف ولا أعرف ومساجد وأئمة دعوا لي في تلك الجمعة الحاسمة من حياتي.

حصوة الكلى اختفت!

ذهبوا بي إلى المستشفى وتعجب الأطباء من معدلات الأملاح في الدم وغيرها من التحاليل التي يتعذر الحياة بمثل هذه المعدلات والأرقام. أما حصوة الكلى التي كانت عندي قبل أسابيع فبقدرة الله سبحانه وتعالى اختفت تماماً ولم تترك أثراً في الأشعة وأغلب الظن أن الله تكفل بها وشفاني وخلصني منها وأنا في البحر. ولم أنم لمدة يومين بعد نجاتي ومازلت اليوم بعد أسبوعين من الحادثة أنام ما لا يزيد على ثلاث ساعات في اليوم ..وتسألني اليوم ما الذي حدث لك؟ أقول لك إن الله أراد بي لطفاً وخيراً عظيماً يوم كتب الأرزاق والآجال واختار لي أسمي بسابق علمه.
“فجمعتي الحاسمة” تلك ستبقى لي ما حييت فاصلاً كالسيف الحاسم بين حياتي قبلها وحياتي بعدها. فما أنا اليوم ذلك الذي كنته بالأمس قبل جمعتي الحاسمة تلك وقد نذرت إلى ربي نذوراً كبيرة. أبسطها ألا أتكاسل عن صلاة الفجر في المسجد وأن أسخر حياتي للدعوة إلى الله وأن أسعى لتسخير وتجنيد قصتي هذه التي هي من آيات الله لإحياء النفوس وتذكير الناس والعودة بهم إلى الله وأن أمتثل قول الله تعالى (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
وإنني اليوم لأنظر بعين غير تلك التي كنت أنظر بها وأسمع بأذن غير تلك التي كنت أسمع بها وكل الأعمال والشعائر صبغت عندي بصبغة السماء فلا الآذان هو الآذان الذي كنت أعرفه ولا الوضوء هو الوضوء ولا الصلاة هي الصلاة ولا طعم الماء هو طعم الماء ولا تعظيم النعمة هو تعظيمها ولا الشعور بالأمان هو الشعور بالأمان ولا تقدير الصحة والعافية هو هو ولا الدعاء هو الدعاء.
كنت أنظر الدعاء “كمسدس ماء” واليوم أعلم أنه أشد وأمضى من أقوى قنبلة ذرية على وجه الأرض بل وفي تشبيهي هذا إنقاص للمعنى وسوء أدب مع خالق السماء والأرض. ولكني اجتهد في تقريب المعنى ما استطعت.
وأدركت ما في هذه الأمة من خير عظيم. أصدقاء أعرفهم وغيرهم لا أعرفهم ذهبوا للبحث عني بالقوارب طوال الليل والنهار. وأناس لا أعرفهم ولا يعرفونني هجروا مضاجعهم وقاموا الليل يدعون الله أن يحميني وأنا هناك في وسط البحر. فأبى الله إلا أن يكون أرحم من قلوب الرحماء من أمته وأن يكتب لهم الأجر ولي النجاة.
تذكرت قول الله تعالى (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) الأنبياء 87-88
وقد قال الله تعالى (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) ولم يقل سبحانه : ( وكذلك ننجي المرسلين أو الأنبياء ) . ليؤكد سبحانه أنه سيكون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة من سينجيه الله بصور عجيبة وغريبة فيها كرامات كتلك التي أنجى الله بها نبيه يونس من بطن الحوت في جوف البحر.
(وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)” إبراهيم 25 (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) النور: 35 (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) العنكبوت 43 .
أما القرش فلا تسألوني عنه ولا عن الضربة التي أمر أن يوجهها إلي في تلك المنطقة بالذات “منطقة الكليتين فالأطباء يعلمون ما فوق الكلية” الغدة فوق الكلوية” المسئولة عن إفراز هرمونات الكاتاكولامينز “Catecholamine” وما دورها في مثل هذه المواقف.
كل الذي أعرفه هو أن تلك الضربة التي أمر الله هذا القرش بها كانت بمثابة القوة التي أعانتني أن أواصل مسيرتي نحو تحقيق واجب الحفاظ على النفس والنجاة من الموت ولم يؤمر القرش بغير هذه الضربة مستجيباً لله الخالق الذي له الأمر من قبل ومن بعد (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ).
أخوكم الدكتور حسام عبد السلام جمعة

****