د. خالد بن عبد الرحمن الشايع
في يومٍ بهيج من أيام المدينة النبوية.. وفي صباح عيدٍ سعيد.. كان البيت النبوي وما حوله يشهد مظاهر الاحتفال بالعيد، على مرأى وعلم من سيد البشر محمد عليه الصلاة والسلام، حيث كان الجميع يعبر عن فرحته بالعيد، ويحرص أن تكون احتفاليته تلك بمشهد من النبيِّ الكريم؛ حبًّا وشوقًا وتكريمًا له عليه الصلاة والسلام.




- أما في داره الشريفة فتحدثنا عن ذلك عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- فتقول: دخل عليَّ رسول الله وعندي جاريتان تغنيان بغناء بُعاث، فاضطجع على الفراش وحوَّل وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمارة الشيطان عند النبيِّ . فأقبل عليه رسول الله فقال: "دعهما". فلما غفل غمزتهما، فخرجتا.
- وغير بعيد من الحجرة الشريفة كانت هنالك احتفالية أخرى تحدثنا عنها عائشة متممةً لسياق حديثها المتقدم، فتقول: وكان يوم عيد يلعب السودان بالدِّرَق والحِرَاب، فإمَّا سألتُ النبيَّ وإمَّا قال: "تشتهين تنظرين؟" فقلت: نعم. فأقامني وراءه، خَدِّي على خدِّه، وهو يقول: "دونكم يا بني أرفدة" (لقبٌ للحبشة)، حتى إذا مَلِلْتُ قال: "حسبك". قلت: نعم، قال: "فاذهبي"[1].
- وفي موضع آخر قريبٍ من الحجرة النبوية تنشأ احتفالية بهيجة بالعيد، تولى شأنها عدد من الأطفال في أناشيد رائقة وبديعة في مدح النبي عليه الصلاة والسلام:
تقول عائشة: كان رسول الله جالسًا، فسمعنا لَغَطًا وصوت صبيان! فقام رسول الله ؛ فإذا حبشيَّة تزفن (تتمايل وتلعب) والصبيان حولها، فقال: "يا عائشة، تعالي فانظري". فجئتُ فوضعتُ لحيي على منكب رسول الله ، فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه، فقال لي: "أما شبعتِ؟ أما شبعت؟" قالت: فجعلت أقول: لا؛ لأنظر مَنْزلتي عنده، إذ طلع عمر، قالت: فارفضَّ[2] الناسُ عنها. قالت: فقال رسول الله : "إني لأنظر إلى شياطين الإنس والجن قد فرُّوا من عمر". قالت: فرجعت[3].
- وعندما نحاول معرفة طرف من تلك الأناشيد وكلماته فإنها كانت بلغاتهم، حتى إن النبيَّ كان يستفهم عن معانيها؛ ففي المسند وصحيح ابن حبان عن أنس بن مالك أن الحبشة كانوا يزفنون بين يدي رسول الله ويتكلمون بكلام لا يفهمه، فقال رسول الله : "ما يقولون؟" قالوا: يقولون: محمد عبدٌ صالح.
** استنبط العلماء مما تقدم فوائد عديدة، منها:
- مشروعية التوسعة على العيال في أيام الأعياد بأنواع ما يحصل لهم بسط النفس وترويح البدن، وإذا كان الشخص بسبب كبره أو مكانته ووقاره لا يميل إلى الترويح والترفيه وهذا لائقٌ به، إلا أن الآخرين وخاصة الأهل والأولاد ومن هم في مقتبل العمر يحبون ذلك ويميلون إليه، فينبغي أن يمكَّنوا من هذه الرغبة الفطرية في إطار ما أباحته الشريعة.
- وفيه أن إظهار السرور في الأعياد من شعار الدِّين؛ ولذلك لما رأى النبي غناء الجاريتين الصغيرتين لم يمنعهما بل أقرهما، بل إن النبي لما سمع أبا بكر يريد منعهما قال: "دعهما". وفي رواية أخرى قال: "يا أبا بكر، إن لكل قومٍ عيدًا، وهذا عيدنا". وفي رواية في المسند أنه قال يومئذ: "لِتَعْلَمَ اليهود أنَّ في ديننا فسحة، إني أُرسلت بحنيفية سمحة".
- وفيه الرفق بالمرأة واستجلاب مودتها، فإنها مجبولةٌ على المشاعر المرهفة والعواطف الرقيقة، ويحصل ذلك بتلبية رغباتها الفطرية ومطالبها الاعتيادية ما دامت مباحة، وقد ضرب النبي أروع الأمثلة في هذا الباب، وبيوته الكريمة زاخرة بمظاهر الإحسان والتودد والوفاء لأمهات المؤمنين. وفي مشهد التقارب والتآلف الذي وصفته أم المؤمنين "خَدِّي على خدِّه" وما يتضمنه من التلاحم الوجداني والتواصل الروحي، ما يؤكد أن العيد فرصة للملمة ما لعله يكون تبعثر من أجزاء الصورة الزاهية لبيت الزوجية.
- في وقوف المصطفى مع عائشة -وهو من يُعرف عظيم قدره وجلال شأنه وضخامة مسئولياته- من أجل لهو عائشة وترويحها عن نفسها، درسٌ للآباء والإخوة والأزواج من أجل تحقيق هذا التوجه لدى الفتيات؛ ولذا كانت عائشة تقول: "فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو". أي: قدِّروا رغبتنا في ذلك إلى أن تنتهي الواحدة منا، وتقضي نهمتها من ذلك. وقد وُجد بالاستقراء أن التحجير على الأهل والذرية ومنعهم من نيل حاجاتهم من الترفيه والترويح، يرجع بنتائج عكسية وبخاصة في المجال النفسي والاجتماعي.
- إن انشغال الشخص باللهو والترفيه لا ينبغي أن ينسيه المنهج الشرعي والتربوي الذي ينبغي التحلي به؛ فاللهو والفرح لا يبرر ارتكاب المحرمات ولا الإخلال بالواجبات، ولا التسبب في أذى أحد من الناس، وهذا ما تلمح إليه السيدة عائشة في قولها: كان الحبش يلعبون بحرابهم، فسترني رسول الله وأنا أنظر. وتوضحه أيضًا بوصفها للجاريتين بأنهما صغيرتان، ولم يكن الغناء لهما بعادة، إنما هو نشيد وأهازيج سامحت به الشريعة لتوافق المناسبة.
العيد فرح للأمة
العيد في الإسلام ليس احتفالاً فرديًّا، كما أنه لا يكتمل بفرح أفرادٍ دون أفراد، بل هو فرح الأمة جميعًا؛ ولذا جاءت الشريعة مؤكدةً أن يكون الفرح والابتهاج للجميع، بداية بأحق الناس وهما الوالدان، وانتهاءً بغيرهما ممن نرتبط به بعلاقة رحم أو صحبة أو جيرة. ومما يوضح ذلك: ما جاء به الهدي النبوي من توفير الطعام الذي هو أحد مقومات الفرح لكل أفراد المجتمع المسلم في صبيحة عيد الفطر، وهناك في عيد الأضحى بما يتوفر من الأضاحي، ولن يتمكن أيُّ نظام في العالم من توفير الطعام بهذا الشمول والتوقيت والتكامل للفقراء كما تحققه الشريعة الإسلامية.
ولأجل ذلك أدرك النبلاء والمحسنون من أهل الإسلام أن سدَّ الحاجات ودفع الفاقات قرين كل مناسبة سعيدة، فالعيد فرح ورحمة ومودة وتواصل، وما زال التاريخ يسطِّر مواقف النبلاء الذي لا تكتمل فرحتهم إلا بتوفير حاجات من حولهم من الفقراء والمحتاجين، فراحوا يطعمونهم ويكسونهم ويغدقون عليهم.
والمفارقة الكبرى أن العيد بتجلياته السامية فرصةٌ لدعوة غير المسلمين وتعريفهم بحقيقة الإسلام عبر علاقات "المجاملة" والتواصل الإسلامي الذي وجَّهنا إليه ربنا في قوله سبحانه: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].
العيد شعيرة سامية
العيد في الإسلام شعيرة ساميةٌ متكاملة، وموفيةٌ لحاجات الروح والجسد؛ فالعيد يأتي متوِّجًا لشعائر عظيمة جليلة مما شرعه الله في رمضان وأشهر الحج من أنواع العبادات العظيمة، فتلك مبتغيات الروح: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} [يونس: 58].
وأما الحاجات الجسدية والميول النفسية المندفعة نحو اللهو والترفيه واللعب، ففي العيد الإسلامي ما يوفِّي ذلك؛ ولذا حرم في الإسلام صيام أيام العيد، إذ لا بهجة كاملة لمن وافى العيد وهو صائم لا يطعم ولا يشرب. ومما يومئ لتحقيق هذه المقاصد ما ثبت عن أنس قال: قدِمَ رسولُ الله المدينةَ ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: "قد أبدَلكم الله خيرًا منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر"[4].
قال ابن جرير في ذكر أحداث السنة الثانية من الهجرة: "وفيها صلّى النبيُّ صلاة العيد، وخرج بالنّاس إلى المصلَّى، فكانت أوّل صلاة عيد صلاّها".
وبهذا باتت الأمة الإسلامية مستغنيةً بكمال شرعتها وتمام نعمتها، قال الله سبحانه: {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48].
حياة النبي كلها أعياد
لقد كانت الحياة النبوية الشريفة بكل أيامها ولحظاتها أيام عيد ولحظات ابتهاج وسرور لكل من يخالطه ويجالسه، ويهتدي بنور شرعته؛ ولذا كانت مجالس المصطفى محفوفة بالواردين على اختلاف أجناسهم وأعمارهم: وفود وسادة، جماعات وقادة، نساء يتعلمن ويستفتين، وشيوخ وشباب وأطفال، كلُّ أولئك نالوا نصيبهم من تلك النعمة المهداة.
ولسوف تبقى هذه النعمة متاحة للبشرية جمعاء إلى قيام الساعة، وإنما يغنم ويربح من سار على النهج النبوي الشريف، واقتفى هديه وسنته، قال الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164].
أسأل الله للجميع الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.


المصدر: جريدة الرياض السعودية.